ووجه الشَّبه بين لطفي ومصطفى -غير المتَّجه الجَمَاليّ العامّ- يظهر في مقدار لِياذهما بالتُّراث العربيّ، والنَّحْو والبلاغة خاصَّةً، ثُمَّ يفترقان في سبيلين مختلفين، يسلك فيه لطفي سبيل مَنْ ذُكِروا مِنْ فلاسفة الغرب، ويلقى مصطفى في النَّاقد وعالم النَّفس الإنجليزيّ رتشاردز طَلِبَته، ويتعلَّق بكِتابه فلسفة البلاغة أيَّ تعلُّق، ويقرأ البلاغة العربيَّة القديمة، ولا سيَّما بلاغة عبد القاهر، على هَدْيٍ مِنْ رتشاردز وبلاغته.
لكنَّ مصطفى ناصف، في كُلِّ كُتُبه التي وضعها في ذلك العهد، تظهر عليه الطُّمأنينة والمحبَّة. وبينما كان لطفي عبد البديع ساخطًا غاضبًا يحقِّر تراثًا وثقافةً وأشخاصًا، يلقانا ناصف وكأنَّه متصوِّف طريقتُه التي سُلِكَ فيها هي البلاغة، لا يحيد عنها مَيْمنةً ولا مَشأمة، كلماتُه وعِباراتُه بعيدة الغور، قِوَامُها التَّفلسف، أوْ لِنَقُلِ التَّصوُّف، وقلمُه يشبه إزميلَ فنَّانٍ أنفق عُمْرًا في نحت تمثاله وتصويره وتكوينه، حتَّى فُصِلَ عمَّا يحيط به، وتعلَّقَ به.
وقارئُه يدرك ذلك، أوْ عليه أن يدركه! فكلماتُه، وعِباراتُه، وفُصُولُه، وكُتُبُه تشبه أنْ تَكُون نَصًّا واحدًا، يُتِمُّ أحدُها الآخَرَ، لكنَّها لا تشبه ما ينشئه نُظراؤه مِنَ المؤلِّفين والكُتَّاب، بلْ عساهم يحارون في أمرها، إنْ لمْ يَعيبوها؛ فلا فاصل بين مصطفى ناصف وما يكتبه، وتكاد نَفْسه تذوب فيما يكتب، ولا حُدُود بين كلامه وكلام الآخرين؛ فالفكرة هي التي تعنيه، لا مناهج البحث وطُرُق الاقتباس والتَّنصيص، وعملُه النَّقدي يَجُوز الأشكال المعهودة، إنَّه يُنشئ نصَّه هو، مهما كَتَبَ عنْ هذه المسألة البلاغيَّة أوْ تلك، وقراءة نقده ليستْ عملًا سهلًا يسيرًا، وحسبي أنْ أقول: إنَّني لا أرجو مِنْ مصطفى ناصف ما أرجوه مِنَ الآخرين، إنَّني أفهم نقده، فإنْ لمْ أفهمِ تخيَّلُتُ أنَّني أفهم، واعتدتُ أنْ أذوقَ ما أقرأه، ورُبَّما فُتِحَ عليَّ في جولةٍ مَّا، فأظُنُّ أنِّي عرفْتُ شيئًا مِنْ مق معدودٌ في المجدِّدين مِنَ النُّقَّاد، وعساه كان «حداثيًّااصده!
ومصطفى ناصف» قبل نُقَّاد الحداثة، وهو يَصْدُر، لا شكَّ، عنْ منهجٍ، أوْ فلسفةٍ، مِمَّا يحلو لقَبيلٍ مِنْ أساتذة الجامِعة اللَّهج به، لكنَّه لا يستقيد في النَّظريَّة أو الإجراء إلَّا لعقله وفلسفته وطريقته في التَّفكير، وإنَّه ليقول عِبارةً ذهبيَّةً تستحقُّ التَّأمُّل والتَّدبُّر: «ومهما تَكُنِ النَّظريَّةُ حاذقة، فالعِبرة -فيما يقال- باليد التي تعمل»! وهذا -فيما أُقَدِّر- أعلى ما يبلغه ناقدٌ حِرفتُهُ نقْد النُّصُوص والآثار الأدبيَّة.
على أنَّ الخبيئة التي يظفر بها مَنْ تَدَبَّرَ كُتُب مصطفى ناصف ليستْ سوى الكشف عن «العقل العربيّ»، هذه العِبارة التي نلقاها، حِينًا بعد حِين، في كُتُبه الأولى وفي كُتُبه المتأخِّرة، قالَها، وهو مسكون بمقولات «النَّقد الجديد» وعَلَمه رتشاردز، وانتهى إليها، بعد أنْ خَبَرَ بلاغة العرب والغرب، وظهر الشَّيخ في كُتُبه الأخيرة وهو يذود عن البلاغة العربيَّة القديمة؛ بلاغة ما بعد الجرجانيّ والزَّمخشريّ، وأنشأ النَّاقد المتصوِّف يخاصم النُّقَّاد ويلومهم على أنْ فرَّطوا في بلاغةٍ لمْ يقرأوها، بلْ لمْ يَعْرِفوها، ويدافع عنْ ثقافةٍ لمْ يُحْسنوا رعايتها، وباتَ لَهِجًا بمَتْن التَّلخيص وشُرُوحه، يرى فيه وفيهنَّ ما لا يراه الذين حملوا عليها، مِنَ الَّذين عرفوها، وهُمْ قِلَّة، وأولئك الَّذين لمْ يعرفوها، وما أكثرَ عَديدَهم وأشدَّ شَغبَهم وضجيجَهم! وقال - وما أكثرَ ما قال!: إنَّ في الكُتُب التي لا يقرأها نُقَّاد الأدب، وبخاصَّةٍ كُتُب تفسير القرآن الكريم وأُصول الفقه، ما فيه حياة النَّقد الأدبيّ، وكَرَّرَ -وما أتعبَه التَّكرار-: إنَّ في شُرُوح التَّلخيص، تلك التي وصفتموها بـ«العقيمة»، مزيَّةً نلقاها فيها، كما نلقاها في شُرُوح تشبهها، قِوَامُها التَّحاوُر بين النُّصُوص، وكأنَّما وارث عِلْم شيخ الأمناء، وتلميذ أنداده مِنَ الرُّوَّاد -وبخاصَّةٍ طه حسين والعقَّاد- أَجَمَ كلامهم المكرَّر المملول في ذَمِّ البلاغة العربيَّة والشِّعر القديم، فلمَّا استبانَ الحقَّ صَدَعَ به!