ومع ذلك كان «المعنى» هو ما يشغله في كُتُبه، وما كان باحثًا هَمُّه أن يَجمع الأشباه والنَّظائر، إنَّما كان متصوِّفًا باللُّغة، لا يَمَلُّ تذوُّقها وتأمُّلها. أمضَى كُلَّ عُمْره يُديم النَّظر فيها، وكان العنوان الأوَّل لِمَا يكتب هو «البلاغة». استهواه في مقتبل حياته، تفسير الزَّمخشريّ، فهالَه جلال المعنى، وفتنه رتشاردز ومدرسة «النَّقد الجديد»، فشرع يقرأ البلاغة العربيَّة على هَدْيِه وهَدْيِها، ورُبَّما أوقعه ذلك في مزلق الاستعلاء على البلاغة وأعلامها، وكان بالغ الحماسة للنَّقد الجَمَاليّ، فجَدَّ يصحِّح ما اعوجَّ مِنْ سُبُل النَّقد، وحِين عرف النُّقَّاد العرب مناهج ما بعد الحداثة أشبهَتْ تأمُّلاته ما يكتبه التَّفكيكيُّون، وكان صادقًا فيما كتب لا يضرُّه أن يقول في بعض كُتُبه: إنَّنا ظَلَمْنا النَّقد القديم ولمْ نُوْلِهِ ما يستحقُّ مِنْ فَهْم، وإنَّ شُّرُوح التَّلخيص تنطوي على أكثرَ مِمَّا نتوهَّمه عنها، وكان متسامحًا في مُناجَزته للنُّصُوص الأدبيَّة، وقليلٌ في النُّقَّاد المتسامح، وأُوْتِيَ قُدْرةً فذَّةً على قراءة الشِّعر والتَّهدِّي إلى مَضَايِقه، وذكاءً نادرًا، وخبرةً في معاينة النُّصُوص، وتلك -فيما أُقدِّر- أهمُّ صِفات النَّاقد.
لا أعرف، اليومَ، ما الَّذي أغراني بكِتاب الصُّورة الأدبيَّة للدُّكتور مصطفى ناصف، أوَّلَ عهدي به في مكتبة تِهامة، سنة 1404؟.
فليس للعنوان وشيجةٌ بما أقرأه في ذلك الوقت، ولمْ ألتحقْ بالجامِعة حتَّى أجِد سببًا لابتياعه، وما كُنْتُ، وأنا طالب في الثَّانويَّة التِّجاريَّة، لتشغلَني مسائلُ في النَّقد، دَعْ عنك أنْ تَكُون في الصُّورة الأدبيَّة، ولمصطفى ناصف دون غيره!
لكنَّني قرأْتُ شيئًا مِنَ الكِتاب، ومؤكَّدٌ أنَّني لمْ أفهمْ ما قرأتُه! لكنَّ قَدْرًا يسيرًا مِنَ الأسماء، والمسائل، رَسَبَ في ذهني، وكلامًا فَهِمْتُ بعضه يقابل فيه المؤلِّف قصيدةً لصلاح عبد الصَّبور بأخرى لابن الرُّوميّ، موضوعُهما رثاء ولدٍ صغير، ثُمَّ استقرَّ الكِتابُ في مكانه مِنْ خِزانة كُتُبي خمس عشرة سنةً!
ما بين عامَيْ 1404 و1419 تغيَّرَتْ أشياءُ كثيرةٌ: تخرَّجْتُ في الثَّانويَّة التِّجاريَّة، ثُمَّ اختلفْتُ إلى الجامِعة ونِلْتُ إجازتَها في اللُّغة العربيَّة وآدابها، وعَمِلْتُ مدرِّسًا في التَّعليم العامّ، فمشرفًا تربويًّا، ثُمَّ انتقلْتُ إلى الرِّياض سنة 1418، والتحقْتُ ببرنامج الدِّراسات العليا، بجامِعة المَلِك سُعُود.
وحينئذٍ عُدتُ إلى مصطفى ناصف وكِتابه القديم في الصُّورة الأدبيَّة وأخوين له أحدهما نظريَّة المعنى في النَّقد العربيّ، والآخر هو دراسة الأدب العربيّ، فإذا بي أفهم أشياء وتفوتني أشياء! لكنَّني تعلَّقْتُ بكُتُب هذا النَّاقد الكبير وشطحاته النَّقديَّة التي لا أجِد لها مثيلًا فيما ينشئه النُّقَّاد والدَّارسون، وأذهلَني -في ذلك العهد- كلامٌ له سِيقَ في تولُّع الشِّعر العربيّ بـ«التَّشبيه»، قبل أن ينصرف الشُّعراء المحدثون، في العصر العبَّاسيّ، إلى «الاستعارة»، وبينما دَكَّتْ هذه الأخيرةُ الحُدُودَ بين الأشياء، حرصَ التَّشبيه على الحُدُود التي تَفصل بين المشبَّه والمشبَّه به، وكأنَّ تَينك المغامرتين الفنِّيَّتين إنَّما تَصْدُران عنْ موقفٍ اجتماعيٍّ طبقيّ!
راعَني كلام مصطفى ناصف، وأحببتُه، رغمَ أنَّه مَسَّه مَسًّا خاطفًا، لكنَّ كلامه ذلك البعيد الغَور أغراني بكُتُبه، فواظبْتُ على قراءتها ليس مَرَّةً أوْ مَرَّتين، بلْ ثلاثًا وأربعًا! وفي التَّصنيف الجامِعيّ -وهو تصنيفٌ مدرسيٌّ بائس- يُدْرِجُ الدَّارِسون مصطفى ناصف في الاتِّجاه الجَمَاليّ، يسبقه في التَّسمية زكيّ نجيب محمود، ورشاد رشديّ، ويلحقه لطفي عبد البديع، ومحمود الرَّبيعيّ، ثُمَّ ينتهي الأمر، فإذا بهؤلاء النُّقَّاد وكأنَّهم توائم متشابهون، وكأنَّما الذي يعني الدَّارسَ عنايتهم بالعمل الأدبيّ في ذاته ولذاته، مقطوعًا عمَّا سِوَاه! وهذا وَهْم!
فلا يكفي أن يقال: إنَّ مصطفى ناصف مشغوف، في ذلك العهد، بمدرسة «النَّقد الجديد» الأنگلوأمريكيّ، وبخاصَّةٍ رتشاردز وإليوت لأسلكه مع أولئك النُّقَّاد -ما عدا لطفي عبد البديع- فثَمَّ فُرُوق بينه وبينهم، فزكيّ نجيب محمود -وهو أقدمهم- كان هذا الضَّربُ مِنَ النَّقد ملائمًا لمتَّجهه الفلسفيّ، ثُمَّ إنَّه آنسَ في «النَّقد الجديد» ما يجعله أدنَى إلى كلامٍ لعبد القاهر الجرجانيّ، لعلَّه وقف عليه عند محمَّد مندور، فأعجبه وزَكِيَ عنده! أمَّا رشاد رشدي فكان وفيًّا لبضاعة أستاذٍ في الأدب الإنگليزيّ، لمْ يَرُقْهُ -وهو مُحِقٌّ- لَتُّ نُقَّاد اليسار وعَجْنُهم في الالتزام، والشَّكل والمضمون، واستبسالُهم في حَمْلِ الأدباء والمثقَّفين على ما يريدون، وما كان جهد محمود الرَّبيعيّ ليُجاوِز العرض والتَّلخيص والمقابلة، وكِتابه في نَقد الشِّعر خيرُ مِثال لذلك النَّقد. وللحديث بقية .