رأيت في المنام أني رددت تلميذاً، وقلما أذكر ما أراه في أحلامي، لأني أنام كالقتيل من فرط الإعياء والنصب، ثم لأن ذاكرتي خوانة.!

وأحسب أن من فضل الله علي، أنه أعفاني من الشغلان بالأحلام وتأويلها، فما ينقصني من دواعي الاضطراب إلا هذا، وقد كنت في حياة أمي رحمها الله، أصبح فأدخل عليها وأجلس إلى جانبها، على حشيّة مطروحة فوق السجادة، وأمامها الموقد وعليه وتحته أدوات القهوة كلها، فتصب لي شيئاً في الفنجانة وتناولنيها فأسألها: «نمتِ نوماً مريحاً؟»

فتقول: «لله الحمد»


فأسألها مرة أخرى «أحلام لطيفة إن شاء الله؟»

فتقص علي ما رأت وأنا مصغ، وبي كالذهول من شدة استغرابي لدقة الوصف وإحاطته بالألوان والأصوات والإحساسات، وما يدور في النفس من معان، وأراني أسأل نفسي وأنا أنصت: «أتراها تتخيل؟» ولكني أعرفها صادقة تتقي الله وتخشاه، فلا يسعني إلا أن أتعجب لهذه القدرة التي حرمت مثلها.

وأذكر أنه لم يسؤني أني رجعت تلميذاً، أجلس في الصف وأصغي إلى المعلم وأجعل بالي إليه، وقلت لنفسي وأنا ماض إلى المدرسة: إن الحياة مدرسة لا تنتهي. والمرء لا يكف عن التعلم لحظة واحدة، إلا حين تنقطع أنفاسه ويخرج من الدنيا. وصحيح أن أكثر ما يتعلمه الإنسان في مدرسة الحياة، يدفن معه فلا ينتفع به أحد - لا هو ولا سواه - ولو كان الذي أفاده في حياته يبقى بعده، ويتخلف في الدنيا دونه، لما كان المرء خليقاً أن يشعر بعبث التجارب، وما استطاع أن يحصل في فسحة العمر طالت أم قصرت، إذ ما خير أن أتعلم وأن أحصل وأن أستخلص الحكمة والعبرة، مما أجرب وأعاني إذا كان كل ذلك يطوى معي، بل لا يعود له وجود؟ ولكن ما يبدو من قلة الجدوى في النهاية، لا يمنع أننا نظل نتعلم ما دمنا أحياء، وإذا كان هذا هكذا فالأولى أن يكون المرء تلميذاً جهرة وصراحة، فلا يذهب يدعي أنه فرغ من التعلم، وحصل كل ما ينبغي له تحصيله، وهذا الذي أصنعه الآن من استئنافي عهد التلمذة، هو الذي يقضي به الصدق - صدق النفس على الأقل.

ولا أذكر ما الذي ردني إلى المدرسة، وكل ما أعرفه أني رأيتني أقصد إليها، وأني كنت فرحاً بذلك، وكان معي شيء أحمله ولم ألتفت إليه إلا بعد أن صرت بين التلاميذ الآخرين، فقد وجدت «الفصل» غاصاً بهم، ولكني لا أذكر منهم إلا وجه الأستاذ محمود عزمي، فقد كان يجلس إلى أقصى اليمين، وكان مكاني الذي قصدت إليه في أقصى الجنوب، وكانت وراءه نافذة مغلقة، فوضعت ما أحمل على حافتها، وعرفت في هذه اللحظة فقط أن الذي أحمله هو قطع شتى من الحلوى والفطائر والسندوتش، وتذكرت وأنا أضع ذلك على حافة النافذة، المحكمة العسكرية التي شهدت جلساتها أيام كنت أعمل في جريدة الأخبار، وكانت المحاكمة طويلة وكنت أوافي الجريدة بأنبائها مفصلة، وكانت الجلسات تعقد في الصباح وفي المساء أيضاً كل يوم، وكنت أتعب وأجوع وأظمأ، فكان المرحوم أمين بك الرافعي يبعث إليّ مع الخادم، الذي يجيء ليأخذ مني الأوراق التي كتبتها بالسندوتش، وما إليه و «بترموص» فيه عصير الليمون، فكنت آكل وأشرب وأفرق!

وكان الأستاذ الذي وجدته في «الفصل» شاباً وكنت أحس أني أعرفه، ولم أستغرب أن يكون شاباً، وحدثت نفسي أن هذا خير من أساتذتي القدماء، الذين كانوا جميعاً من الشيوخ، ولا أعني الشيوخ ذوي العمائم بل من الشيوخ في السن، ولا أستثني منهم إلا واحداً هو الأستاذ الشيخ أحمد الإسكندري، أراني لا أزال أضن به أن أسلكه مع سواه ممن علموني في صغري. وقلت لنفسي وأنا واقف في مكاني - فما أذكر أني قعدت - عسى أن يسير بنا هذا الأستاذ الشاب، في نهج مستقيم واتجاه سديد، فقد أضلنا تعليمنا القديم وحيرنا وتركنا كالتائهين في الصحراء، وما كان لنا من أساتذتنا السابقين مرشد أو معين، وأحسبهم ما كانوا يعرفون إلا ما يعلموننا، فلهم العذر إذا كانوا قد عجزوا عن هدايتنا وإرشادنا والأخذ بأيدينا.

وكان الأستاذ يحمل خيزرانة - فما استطعت حتى في الحلم أن أتخلص من صور المدرسة القديمة، وكان أبرز ما فيها العصا - وابتسمت وأنا أنظر إلى الخيزرانة في يد المعلم، ونظرت إلى الأستاذ عزمي فأدرك ما أريد وهز رأسه وابتسم ابتسامته المحببة وقال: «أيوه يا سيدي... لا يزال القديم على قدمه مع الأسف». وقال الأستاذ شيئاً فهمت منه أنه يريد أن يلقي أحدنا كلمة استهلال - أي أن يفتتح الدرس، فأعربت عن استعدادي لإلقاء الكلمة المطلوبة، فقال الأستاذ عزمي: «من أول يوم يا مازني؟» فابتسمت له راضياً وتنحنحت استعداداً للكلام، وأذن لي الأستاذ فقلت كلاما لا أذكر منه مع الأسف ولا حرفاً واحداً، ولكني أذكر أني كنت وأنا أتكلم أحدث نفسي بأن الأثرة كانت تفسد على التلاميذ حياة المدرسة المشتركة، فكان أحدنا إذا اشترى شيئاً من الحلوى أو «المخلل» - فقد كنا نشتريه قبيل الغداء ونحمله معنا إلى موائد الطعام - أقول إن أحدنا كان إذا اشترى شيئاً يضن به على إخوانه، ولا يسمح لهم بأن يشاركوه فيه، وكان ربما ذهب إلى ركن خفي وأخرج من جيبه بعض ما فيه، وراح «يبلع» قبل أن يفاجئه أحد ويطلب منه قطعة.

ولكنا كبرنا الآن وعرفنا أن الأثرة عيب، وأن لذة المشاركة أحلى وأطيب، وأن جديراً بي في مستهل حياتي المدرسية الجديدة، أن أستن سنة الإيثار أو على الأقل المشاركة، وأن أقلب جو المدرسة جو تعاون ومودة. كان هذا يدور في نفسي وأنا ألقي كلمتي، فامتدت يدي إلى النافذة، واستراحت أناملي عليها إلى أن أستطيع أن أهتدي، وأنا أتكلم إلى مناسبة تسمح بأن أوزع الحلوى والسندوتش على الزملاء، ولكن المناسبة لم تعرض مع الأسف لسبب خارج عن إرادتي، فقد استيقظت فانتسخ الحلم قبل أن يتم. وكان الذي أيقظني صوت دق عنيف على باب العمارة وصياح عال: «افتح يا محمود... أنت ميت؟...» فأخرجت الساعة من تحت الوسادة ونظرت إليها فإذا هي الثالثة صباحاً، فقلت: والله إن محموداً لمعذور! وهل كان عليه أن يظل واقفاً بالباب ينتظر مقدم صاحبنا إلى الفجر؟.

1937*

* أديب وكاتب مصري «1889 - 1949»