والمفارقة الثانية هي أن الغربيين هم الذين ابتدعوا مفهوم العالم الإسلامي أيام الاستعمار، أي أساسًا في النصف الأول من القرن العشرين، في حين أن هذا المجال الواسع كان ممزقا بين أيدي المستعمرين الأوروبيين من إنجليز وفرنسيين وهولنديين وروس، وهذا من أندونيسيا إلى المغرب، ومن أوزباكستان إلى إفريقيا.
لماذا حصلت مثل هذه التسمية؟ لأن المسلمين ما زالوا يقدمون خطابيا عبارة «الأمة الإسلامية، ولأن الدين الإسلامي كان يزن بقوة في هذه المجتمعات فيمثل هويتها العميقة الثابتة.
لكن الأوروبيين ورثوا مفهوم المسلمين عن القرون الوسطى بعد صراعات طويلة، وهم لم يشاءوا أن يعوا الفوارق الثقافية والعرقية والقومية لدى هذه الشعوب المتعددة.
وكأن الأمور تجري على المنوال نفسه في أندونيسيا والهند وإيران والعراق ومصر والمغرب والسنغال... وهكذا ففكريًا، كانوا يوحدون بين كل المسلمين في حين أن الإدارة الإستعمارية كانت تسوس كل شعب وكل قطر على حدة وبأسلوب خاص به.
ولعل هذا ما جعل الأوروبيين يسمونه بسمة العالم، لوحدته الدينية والحضارية وامتداده الشاسع، وكذلك بسبب تنوعه في البنى التحتية وفقدانه لدولة موحدة كما كانت عليه الحال زمن الخلافة القديمة. وفي هذا النعت (العالم) وجاهة من الوجهة النظرية في تلك الفترة سوى أن الأوروبيين هم الذين قاموا بتدمير الدول المحلية وإضعاف العلاقات التجارية والإنسانية، وبالتالي تحويل الدول والمجال الإسلامي والأمة الإسلامية كمفهوم روحي إلى عالم جغرافي مفكك.
لقد كان أسلافنا يتحدثون عن دار الإسلام، وهو مفهوم ديني - سياسي - حربي، ثم عن أمة الإسلام وحوزة الإسلام، ولم يكونوا بعد انحلال الخلافة يرون سوى رابطة الدين كمؤسس لهوية شاسعة ورابطة الحضارة الموحدة، أي أسلوب الحياة الذي أسسه الإسلام كما تأوله البشر وأبدعه ثم زكاه التاريخ وثبته إلى حد كبير في المعاش والتراكيب المادية والذهنية.
لكن الدين في الفترة الكلاسيكية وما بعد الكلاسيكية لم يؤسس كل شيء في مجال الحضارة، فقد أخذت إبداعات من الحضارات القديمة وكيفت في البوتقة الإسلامية، أي في صلب مجتمع متعدد وموحد في آن.
وقد كانت اللغة العربية في ميدان الثقافة، الحاملة للإبداعات الفكرية والأدبية من دين وعلوم اللغة وفلسفة وعلم رياضي وتجريبي وكيمياء، على الأقل لمدة ستة قرون، وبقيت تلعب دورها إلى الآن. وحقيقة الأمر أن المسلمين إلى حدود القرن السابع عشر كانوا يعتبرون أنفسهم العالم كله، لكن بدرجة أقل من الصين. وكان الإسلام كدين وحضارة وثقافة في بعض الفترات المظلمة يهضم بكل سهولة الغزاة البرابرة الأجانب كالترك ثم المغول ثم التركمان.
فكلهم ذابوا في الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية. وهذا شأن كل الحضارات الرفيعة من اليونان إلى الصين إلى الإسلام، وإلى أوروبا الآن.
وليست المسألة مسألة تشبه المغلوب بالغالب بل استعداد الإنسان للتأثر بما هو وجيه ورفيع وسام في الدين والحضارة والثقافة، ولو كان هو الغالب عسكريًا وماديًا. وهنا يبدو كمسلم فخور بحضارة الإسلام يحكم على حضارة أخرى باسم حضارته لكن مدللا على ذلك ببراهين تكاد تكون موضوعية.
ووجدانيا، فكل إنسان ولد وتربى في مجتمع لا يتساءل أبدا عن قيمته ولا يقارنه بغيره، بل هو منسجم معه تمام الانسجام.
وذلك أمر حياتي وإلا أصابه العصاب.
ولا بد للإنسان أن يحب -يقول فرويد- «وإلا مرض»، ويمكن أن نعمم هذا على علاقة الفرد بمجتمعه وهذا الفرد لم يكن يعرف إلا مجتمعه ولا ينظر إلى غيره.
هذه الفكرة هي التي تمثل إشكالية جدل الحضارة الإسلامية الراهنة أو منذ قرن والحداثة تجاوزا للأفكار المعروفة. فالحداثة سواء كمطمح أو هاجس أو حتى كتركيبة موضوعية أتت من حضارة أخرى تدخل الاضطراب على الفرد والقلق على المجتمعات الإسلامية وغيرها، ومتى قوي الهاجس ترتفع الطمأنينة عند الفرد أو عدد من الأفراد.
الجانب النفسي مهم ولم يطرح جديًا، وهو لا يقل أهمية عن الجانب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وإلى حد بعيد تطرح الحضارات مشكلة الحداثة، حسب سلم قيمها وتصورها لذاتها، على الأقل في الأطوار الأولى.
فقط عندما تدخل عناصر منها وتتغلغل في المجتمع، تصير محببة من طرف القطاعات المستفيدة منها أو التي أصبحت متماهية معها في عطاءاتها المادية أو المعنوية.
وهنا يتطور الأمر من التحشر الأولي (محمد عبده، شكيب أرسلان)، إلى التقبل الصعب في فترة ثانية، إلى انفصام المجتمع في الفترة الراهنة وقلق الفرد والمجموعة وردود الفعل على الحداثة ذاتها. لقد أصبحت العبارة (الحداثة) مستعملة بكثرة سواء في الغرب أو لدى المسلمين، في حين أن الأولين كانوا في القرن التاسع عشر يتحدثون عن الحضارة والتقدم والمسلمين عن المدنية والتمدن.
1956*
* كاتب وباحث أكاديمي تونسي «1935 - 2021»