فوق جبل تحيطه الدنيا بذراعيها، وتضع أحد خدّيها فوق رقعته طمعاً بالغياب، لم يؤرق عينيها سوى حفنة من أشجار اللوز والزيتون تحاول مشاكستها، وفي كل مرة تتصنع القوة وتدّعي البأس دون أن تبرح مكانها، بينما هي في قرارتها تُقبّل أقدام السحب المتناثرة، خوفاً من حسرة ورغبة في قطرة، كنتُ أتراكض دون وجهة أبتغيها، وأسعى جاهداً دون أن أعرف إلى أين.

في أذني ما تبقى من همسات أمي، وعلى أذرعي الرفيعة ما طاب لي من لمساتها، لم أكن أعرف حينها أنني لن أعود، ولم ألتفّ وقتها لوداع بيتي الذي لن أراه بعد اليوم، لو كنت أدري بمصيبتي لتصنّعت الوهن ولبست رداء المرض، ولزمت مخدتي التي ستكتسي باليُتم بعدي، أو لتشبثت بأخوتي وبقيت معهم، كان الموت عندي مُعرّفاً بغياب جدّي، وسفر جدتي بعيداً عنا، لكنني الآن في حضرته، وهو يتثاءب لابتلاع أقدامي الصغيرة، ووأد عمري الذي ربما لم يبدأ بعد!.

كانت أمامي حفرة صغيرة، لم تُعرها نفسي أيّ اهتمام، ولم تأبه طفولتي بقربها مني، ولم تعرف أنها عينٌ لأفعى ومخلبٌ لفَناء، سقطتُ فيها خلسةً دون أن أدري، وانتحرت أشعة الشمس حينها على مرأى مني، كان السقوط سريعاً وموحشاً، بينما أطرافي تتهشّم ضعفاً، وعيناي لا تمتلك فسحة للبكاء، وفمي قد استسلم بعيداً عن الاستغاثة، والضيق والظلمة يتسابقون للنيل مني، تُرى هل تكون سكرة من المرح وضرباً من العبث، أم حكاية أرددها أو يسردها غيري عندما تتيبس أوراق الأمل بعد موتها.


أخَذت تلك الحفرة المقيتة تشتدّ ضيقاً، وترابها الرطب يُطبق على أنفاسي، والبرد يخنقني بلا رحمة أو هوادة، إن كان هذا حُلماً فهيا يا أمي هُزّي جسدي لأصحو بكِ، وإن كان هذا هو الموت فهيا يا أبي هبني يدك فأنا خائف، إنني لم أعتد تلك الوحدة ولم أقبل يوماً بسطوة الليل، لقد كنت أزهو بضعفي قربكم وأتلذذ بحاجتي إليكم.

يا أيها القدر أخبرهم أن جسدي قد ارتطم بصخرة قاهرة، وأنا أشعر بالألم يجري في كل عروقي، طرحت نفسي جانباً لا أقوى على الحراك، وحاولت أجفاني التباعد بلا نتيجة أو فائدة، سألت نفسي:

هل سيرفق بي أحد؟، أم أن الجميع لا يعرفون عنّي، ربما يجب أن أنتظر قليلاً، فمنذ أيام قليلة دفعني شقيقي نحو الأرض، وما هي إلا بضع دقائق فتحملني أمي وتقبّلني، سأبقى أنتظرك يا أمي، أرجوكِ لا تتأخري، ففي هذه المرة كثير من الحرمان وقليل من الدفء، لا أريد طعاماً أو شراباً، لا أرغب بقطعة الحلوى التي اعتدت عشقها، لا أريد اللعب مرة أخرى، لا انتظر ملابس العيد ولا يعنيني أي درهم في جيبي، أريدك أن تصطحبينني لشراء بعض الأرغفة غداً، أريدك أن توبخينني على فعلتي التي لا زلت لا أفهمها، أنا أقبل عقابك مهما كان، أنا مجرّد أريدك أن تأتي!.

أخذت روحي تحاول الانسلاخ عن جسدي، أقاومها ببضع رجفات من يدي، وترجوها دمائي المعفّرة بالتراب أن تتأنى في غايتها، وتتوسل إليها طمعاً في فسحةٍ من الزمن، فأنا أضعف من أن تبطش بي، وأصغر من أن تُحصي سنين حياتي، أكاد أسمع بضعة أصوات بعيدة لا أفهمها، وأكاد أشعر ببضعة حبال تتدلى أمامي ولا أراها، وفي كل مرة تهمس لي نفسي بأن هناك من يبكيني، صَرَخت روحي في وجهي:

لن أنتظر أكثر من ذلك، فأنا أيضاً قد ضقت ذرعاً بهذا المكان، وسأصعد بعيداً بك عن جسدك، يجب أن أكون في عجلة من أمري، أشعر برجلٍ كهل يحاول الولوج إليك، إن حماسه يقلقني، وأشعر بالكثيرين ينتظرونك لكنني لا أكترث بهم، لا تخف أيها المسكين، فجسدك سيطير أعلى من أي طائرة ورقية كنتَ تحلم بها، وسيسير محمولاً في موكبٍ جنائزيّ مهيب، وستتقطع الكثير من القلوب لفراقك، وستذكرك الدنيا عن بكرة أبيها، وستحتضن الطفولةُ قبرك الصغير، هيا يا صغيري لقد آن أوان الرحيل!