الحديث عن الديمقراطية طويل وشائك، ولا بد لنا أن نركز على العلاقة التي تربط الحاكم بالمحكوم، وما ينتج عنها من إشكاليات كثيرة ملموسة وفاعلة، للأخذ بها منهجا للحكم. ففي ضوء الأوضاع التي تعيشها الأنظمة الحاكمة في معظ بلدان العالم الثالث، لا بد من الحديث عن الأشكال المختلفة التي تتخذها الديمقراطية في التطبيق، حيث يجب توافر المكونات الأساسية لتطبيقها، وأهمها حقوق المواطن الأساسية التي تحدث عنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأهمها الحقوق الاجتماعية كحق العمل والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، فممارسته هذه الحقوق تجعله مشاركا فاعلا في وضع القرارات التي تمسه على مختلف المستويات. أما المكون الآخر من مكونات الديمقراطية، فهو التعددية السياسية، التي تعطى القوى السياسية حقها في التعبير عن وجودها بالمشاركة في الانتخابات، ويفترض منح الفرص أمام تعدد الاتجاهات السياسية التي يختار المواطن من بينها من يمثله.

الصراع القائم اليوم في العراق هو صراع البقاء بين ديمقراطية فتية تحاول أن تثبت نفسها، لتبني للأجيال مستقبلها، وبين صراع مرير على السلطة، وهذا الصراع مميت، فالجبابرة يحاولون أن يسقطوا الديمقراطية بالضربة القاضية، ويتمكنوا من السيطرة على مفاتيح الحل والعقد في السياسة، والأخيرة تحاول أن تبني لها مرتكزا في بناء الدولة، ولكنها تجد الصعوبة في مقاومة التسلط والديكتاتورية.

إن العراق ليس حالة استثنائية في التجربة الديمقراطية، فله تجارب كثيرة بدأت على شكل الديمقراطية، وانتهت إلى ديكتاتوريات أحرقت الأخضر واليابس، ودمرت البلاد، وحرمت الشعب العراقي من أبسط الحقوق والحريات المتعارف عليها. فعندما أزيل نظام البعث بالتدخل العسكري الخارجي، حاولت كل جهة جاءت مع التغيرات السياسية الجديدة فرض سيطرتها الجغرافية والمنطقية والطائفية بشعارات وطنية وديمقراطية ودينية، ومن هذا نستشف أن التوجهات التي بدأت ملامحها في أثناء تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة كانت تحمل بين طياتها النزعة الفردية، وليس الجماعية، وتجلت هذه التوجهات بشكل واضح وصريح، وأصبح القرار الفردي والحزبي في العديد من القضايا هو الحاسم، وقد يكون هذا التوجه وهذا الطريق عبارة عن خطوات نحو إقامة نوع من الديكتاتورية تحت طائل مسميات كثيرة، في مقدمتها مصلحة العملية السياسية، التي أصبحت بفضل هذه السياسة تعيش مأزقا حقيقيا، ملامحه ظهرت في الانقسامات بين الكتل السياسية عموما.


الديكتاتورية عبارة عن نهج إقصائي، يتسم بالرؤية الضيقة للرأي الآخر، ويعتبر الانفراد باتخاذ القرارات أفضل وسيلة للتخلص من المعارضين، والاستيلاء على المال العام، وحصره في يد الفاسدين الذين يعيثون فسادا في أجهزة الدولة دون رقيب أو حسيب، بل يقفون حجرة عثرة أمام المؤسسات الرقابية والمحاسبية التي تحاول تطبيق القوانين والتعليمات التي ترفض القرارات الفوقية، التي تعتبر معادية للديمقراطية ومصالح الشعب والوطن.

ولعل من المفيد تذكير من يتناسى، وليس ينسى، أن هذه الطريقة تحمل مخاطر جمة مهما تكن الصيغ التي تستعمل لتمريرها، فمصير الديكتاتوريات والديكتاتوريين لم ولن يختلف في الكثير، ولكل واحد منهما طريقة للتخلص منه، وعند ذلك لن يرحمهم لا الشعب والتاريخ.