علاقة شعبنا بالكلمة علاقة خاصة بالتصفيق، وكل ما في الأمر أنهم قرروا الاستراحة وموقفه منها ذو جانبين؛ الجانب الأول: القرف؛ هناك حالة من القرف من كل نوع من أنواع الكلام، الناس يعيشون حاجة محرقة للفعل؛ ولذلك فإن أي نوع من الكلام يبقى، بالنسبة لهم، خارج دائرة الفعل؛ لأن الذين يفعلون في حياتهم قلة؛ ولهذا فإن هناك جدارا قائما بين الناس وبين ما يمكن أن تقوله لهم.

الجانب الثاني: الاغتسال؛ وأعني أن الناس إذا قبلوا بتجاور الجدار الأول فإنهم ينجـاوزونه لكي يغتسلوا بالكلمات، وإذا استطعت الالتقاء بهم وراء الجدار الأول فإنك ستقول لهم أحد الاحتمالات التالية، إما أن تقول لهم إنهم خير أمة أخرجت للناس فيبتسمون لك بهدوه ويسرون؛ فهم يعرفون أنك تكذب عليهم، وحين يصفقون لك تعرف أنهم قد كشفوا كذبتك وأنهم يكذبون عليك، وإما أن تقول لهم: إنكم معذبون ومهانون وفقراء ومسلوبون، لكن المستقبل لكم.

هذا الاطمئنان المخادع الذي منحته لهم، فقد ضمنوا المستقبل بنبوءتك، ولكنهم يخرجون وهم ينتظرون حدوث ذلك الشيء من خارج ذواتهم، وإما أن تقول لهم: أنتم ساكتون على العار والهزيمة والاحتلال والاستلاب، وعندها يصفقون لك ويقولون إنك شجاع، وإن كلامك صحيح والله.. ثم لا شيء.


وإما أن تقول لهم: لا يجوز الاستمرار في السكوت يجب أن نفعل شيئا للخلاص من كل ما نحن فيه، وعندها أيضا يصفقون لك ويقولون فعلا لابد أن نفعل شيئا، ليس ما قلته حتى الآن إلا تبسيطا.

الفن لا يكتسب تسميته (الواصفة) من ذاته إلا بمقدار ما يكتسبها من المناخ الذي ولد فيه: ليس هناك فن معركة قبل وجود المعركة، وليس هناك فن ثورة قبل وجود الثورة، وأن أي تغيير يمكن أن يحدث في الحياة يمكن للفن أن يلعب دوره فيه، لكن لا يمكن للفن وحده أن يصنعه.

هناك فن محرض على خوض المعركة، ولكن الفن ليس بنادق ولا ديناميت ولا أرغفة، غاية الفن القصوى، كما أرى، أن يحرض على التفكير، ويعزز قيم تذوق الجمال ومحاولة فهم ما يجري.

هذا يعني أن على الفنان (مسرحيا كان أم شاعرا أم روائيا أم قصاصا) أن يملك قدرة من الوعي وقدرة على العمل الشخصي المنظم ضمن فعل جماعي، أي أنه إذا أراد أن يحدث تأثيرا مجديا في الجماهير، لابد لعمله الفني أن يتواكب مع فعل مؤثر في الجماهير، وكل الأوهام الفردية حول إمكانيات الفن باطلة، وكل المارسات الناجمة عن هذه الأوهام ليست سوى ألعاب أو أقنعة لا تستجيب لردود الفعل الجماهيري نحو الكلمة المقدمة عبر الأدب أو الفن إلى الناس.

ولابد هنا: من المسارعة إلى القول إنه علينا أن لا نقع في تخيل وجود حالة صحية معينة، يمكن فيها العمل فني أن يخاطب الناس، فيدفعهم حال خروجهم من صالة العرض أو قاعة الأمسية الشعرية إلى تغيير واقع حياتهم. فهمي لإمكانيات السلاح الذي أقاتل به في المسرح أتوجه إلى الجمهور بعقلانية، أوضح من عقلانية الشعر، وأسعى إلى خلق حالة قادرة على مخاطبة استعداد الجمهور من خلال اقترابها من الحالات التي يعيشها، واستنفار ضرورة الفعل عنده (حتى لو التجأت إلى مخاطبة الجمهور مباشرة وخارج الحالة المخلوقة)، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال التعامـل مع الهموم الأساسية التي يعيشها الناس، وتقشير الجراح المتعلقة بالاحتلال أو الاضطهاد،

حتى المسرح الجوال الذي يخاطب الفلاحين مباشرة في أزمات محلية يعيشونها، يجب أن يأتي الجواب (الحل) على لسان الجمهور، وحتى لو حدث أن قبل هذا الجواب في العمل ذاته فإنه يجب أن يأتي في التوقيت الملائم الذي يكون فيه ناطقا بلسان الناس، وفي هذا الميدان أرى تجربة المسرح الجوال على درجة كبيرة من الأهمية. 1966*

* كاتب وشاعر ومسرحي سوري (1941 - 2004)