إننا لن ندرك روعة الجمال في الطبيعة إلا إذا كانت النفس قريبة من طفولتها، ومرح الطفولة، ولعبها، وهذيانها. تبدو لك السماء على البحر أعظم مما هي، كما لو كنت تنظر إليها من سماء أخرى لا من الأرض.
إذا أنا سافرت فجئت إلى البحر، أو نزلت بالصحراء، أو حللت بالجبل شعرت أول وهلة من دهشة السرور بما كنت أشعر بمثله لو أن الجبل أو الصحراء أو البحر قد سافرت هي وجاءت إلي.
في جمال النفس يكون كل شيء جميلا، إذ تلقى النفس عليه من ألوانها، فتنقلب الدار الصغيرة قصرًا لأنها في سعة النفس لا في مساحتها هي، وتتعرف لنور النهار عذوبة كعذوبة الماء على الظمأ، ويظهر الليل كأنه معرض جواهر أقيم للحور العين في السماوات، ويبدو الفجر بألوانه وأنواره ونسماته كأنه جنة سابحة الهواء.
***
في جمال النفس ترى الجمال ضرورة من ضرورات الخليقة؛ وي كأن الله أمر العالم ألا يعبس للقلب المبتسم. المحبوس أيام المصيف هي الأيام التي ينطلق فيها الإنسان الطبيعي من الإنسان؛ فيرتد إلى دهره الأول، دهر الغابات والبحار والجبال إن لم تكن أيام المصيف بمثل هذا المعنى، لم يكن فيها معنى.
***
ليست اللذة في الراحة ولا الفراغ، ولكنها في التعب والكدح والمشقة حين تتحول أيامًا إلى راحة وفراغ. *** لا تتم فائدة الانتقال من بلد إلى بلد إلا إذا انتقلت النفس من شعور إلى شعور؛ فإذا سافر معك الهم فأنت مقيم لم تبرح. الحياة في المصيف تثبت للإنسان أنها إنما تكون حيث لا يحفل بها كثيرًا.
يشعر المرء في المدن أنه بين آثار الإنسان وأعماله، فهو في روح العناء والكدح والنزاع؛ أما في الطبيعة فيحس أنه بين الجمال والعجائب الإلهية، فهو هنا في روح اللذة والسرور والجلال.
إذا كنت في أيام الطبيعة فاجعل فكرك خاليًا وفرغه للنبت والشجر، والحجر والمدر، والطير والحيوان، والزهر والعشب، والماء والسماء، ونور النهار، وظلام الليل، حينئذ يفتح العالم بابه ويقول: أدخل...
***
لطف الجمال صورة أخرى من عظمة الجمال؛ عرفت ذلك حينما أبصرت قطرة من الماء تلمع في غصن، فخيل إلي أن لها عظمة البحر لو صغر فعلق على ورقة. في لحظة من لحظات الجسد الروحانية حين يفور شعر الجمال في الدم، أطلت النظر إلى وردة في غصنها زاهية عطرة، متأنقة، متأنثة؛ فكدت، أقول لها: أنت أيتها المرأة، أنت يا فلانة...
***
أليس عجيبًا أن كل إنسان يرى في الأرض بعض الأمكنة كأنها أمكنة للروح خاصة؛ فهل يدل هذا على شيء إلا أن خيال الجنة منذ آدم وحواء، لا يزال يعمل في النفس الإنسانية ؟
***
الحياة في المدينة كشرب الماء في كوب من الخزف؛ والحياة في الطبيعة كشرب الماء في كوب من البلور الساطع؛ ذاك يحتوي الماء وهذا يحتويه ويبدي جماله للعين.
***
وا أسفاه، هذه هي الحقيقة: إن دقة الفهم للحياة تفسدها على صاحبها كدقة الفهم للحب، وإن العقل الصغير في فهمه للحب والحياة، هو العقل الكامل في التذاذه بهما.
وا أسفاه، هذه هي الحقيقة !
***
من لم يرزق الفكر العاشق لم ير أشياء الطبيعة إلا في أسمائها وشياتها دون حقائقها ومعانيها، كالرجل إذا لم يعشق رأى النساء كلهن سواء، فإذا عشق رأى فيهن نساء غير من عرف، وأصبحن عنده أدلة على صفات الجمال الذي في قلبه.
***
تقوم دنيا الرزق بما تحتاجه الحياة، أما دنيا المصيف فقائمة بما تلذ الحياة، وهذا هو الذي يغير الطبيعة ويجعل الجو نفسه هناك مائدة ظرفاء وظريفات....
1921*
*أديب مصري «1298 - 1937»