من بيروت التي تملّكها الظنّ وأمسك بيدها الأمل، عندما ودّعت حربها الأهلية المقيتة لتصحو على انفجار مرفئها الرهيب، ومن لبنان الذي تحوّل من سويسرا الشرق إلى كومةٍ من المهاترات المتواترة، وتلّة من الإحباط وجبلٍ من الديون.

ذلك البلد الجميل الذي أصبح غارقا في أزماته إلى حد الشلل المزمن، والذي قد غدا اقتصاده حبيس أتون المحاصصة والفساد والتخبّط، ليفتح الفقرُ ذراعيه مرحبا ومهللا بمزيدٍ من الضيوف المغلوب على أمرهم، ولتُغلق المصارف ذراعيها لحجب المدّخرين عن مدخراتهم التي لم تعد قيمتها توازي ذلك العناء، وليصبح الدواء والماء والكهرباء والغذاء حلما يعشقه الحالمون، أعلن زعيم تيار المستقبل في لبنان ترجّله عن حصان العمل السياسيّ، داعيا حزبه لاتخاذ الخطوة نفسها.

وقف الرجل محاولا الإمساك بحبل الثبات، لكنّ الدموع الناتئة من عينيه كانت تستشعر فناء قضبانها وغياب سجّانها، فخرجت ربما لتُعلن النهاية وتُغلق البداية، وارتجفت وتكسّرت بينما صاحبها ينعى كل مجالٍ وكل فرصة، فقرار لبنان ليس بيده وتلك هي الحقيقة، والانقسام الوطني ركيزةٌ من ركائز فسيفساء لبنان وخارطته، واستعار الطائفية دمٌ تدفعه القلوب وتتوارثه الأبدان، واهتراء الدولة وشيخوخة مفاصلها وضعف بنيتها هو أمرٌ واقع.


وقف الرجل الذي تحلّى بالصبر واكتسى بالحكمة والوسطية والاعتدال، ينبئنا بكلماته الحزينة وصراحته الجارحة لنفسه، أنه قد خسر الثروات والصداقات والتحالفات من أجل لبنان الذي عشقه بلا هوادة، لكن النتيجة أن لا شيء يتغير، وأن الانسداد يتلوه انسداد آخر، فهذا هو حال لبنان الآن!

حتى بالنظر لمغادرة الرئيس سعد الحريري لمسرح السياسة فالكثيرون مخطئون، ورغم ما ستنجبه تلك الخطوة الكبيرة من اهتزازاتٍ خطيرة، وخلط أوراق فوق رقعة لبنان المأزوم فالكثيرون تائهون، فمنهم منشغلٌ بالتكهّن لمعرفة الزعيم الجديد الذي سيعتلي ذلك المقعد «السنيّ» بعد شغوره، وقد نسوا أن جميع المقاعد قد أصبحت بلا وزنٍ وبثلاثة أرجل، بينما لبنان قد تعدى مرحلة حافة الهاوية إلى الهاوية بقضّها وقضيضها, ومنهم من يسأل عن هوية البرلمان القادم وتركيبته المتوقّعة، وقد نسوا أن برلمان لبنان ما هو إلا صورة باهتة للبنان البلد، قد عجز فيه من اختارهم اللبنانيون عن زحزحة مواقفهم أو ترتيب أولوياتهم، وأنهم بأحزابهم ومرجعياتهم ومنافعهم قد أقسموا في دواخلهم، ومنذ اللحظة الأولى أنهم لن يغيّروا جلودهم أو حتى ربطات أعناقهم من أجل لبنان، ومنهم من يخشى على الرئاسة، فأين الرئاسة!

لقد عانى الرجل كما عانى لبنان الكثير من الصدمات والاضطرابات والتناقضات، ابتدأت باغتيال والده جهارًا نهارا في قلب بيروت، لتُشعل دماءه ثورة الأرز وتقسم آذار إلى آذارين، وأسقطت حكومته قبل أن تطأ أقدامه مطار بلده، وقدّم التنازلات لتحقيق التسويات وإخراج لبنان من عنق زجاجتها الضيق، وكان هو المستجيب الوحيد لمن نزلوا الشوارع وطالبوا الجميع بالرحيل، وبقي يسعى لإنقاذ البلاد وصون كرامة العباد، تسعة أشهر لكن حكومته لم تُكتب لها شهادة ميلاد.

وبين الدم والدموع، فإن غياب الحريرية السياسية خسارة أخرى تُضاف إلى لبنان الذي خسر الكثير والكثير!.