آمنت منذ زمن طويل بأننا صرنا بفعل الوفر، وغلبة بعض العادات السيئة شعباً اتكالياً نعتمد على الغير في مأكلنا وملبسنا وصرنا نستقدم السباك والحداد والخباز والبناء والصباغ والدباغ والمزارع والخادمة والسائق، ولك أن تعدد ما شئت من أنواع العمل الراقي والوضيع والغالي والرخيص والسهل والصعب وستجد أن الوافد المستقدم هو الذي يتولاها وستجد أننا في الواقع لا نكاد نعمل شيئاً إلا الفرائض الدينية والغرائز البشرية وشيئا من الأعمال المكتبية البيروقراطية ولو كان لنا من الأمر فسحة أو رخصة لربما أوكلناها لمن يتولاها نيابة عنا.

وبما أنه قد صار من السائغ أن يتولى الوافد مباشرة الحرف والمهن اليدوية التي يحتاج اكتسابها إلى المهارة والممارسة فإن ما لا يقبل أن نتكل داخل منازلنا أو في صفوف مدارسنا، على العمال والعاملات فيما يُعد ممارسة حضارية تغرسها التربية العائلية ويعززها التعليم والمنهج الدراسي.

ما يحدوني لهذا الكلام هو ما صرت ألحظه من اتكالية شديدة من الأبناء والبنات في شأن النظافة العامة أو ترتيب الأغراض الخاصة.

وزاد الأمر تأكيداً التقرير الصحفي الذي نشرته إحدى الصحف المحلية من داخل حرم جامعة نورة وفيه تشنيع واضح لسلوكيات الطالبات الجامعيات اللاتي يدرسن في أحدث وأجمل الصروح التعليمية الجامعية، وللعلم فقد تيسر لي دخول هذا المبنى خلال حفل التدشين بحضور خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبدالعزيز يحفظه الله وقد شهدت مع الجمع الحاضر القاعة الفارهة التي أقيم فيها الحفل الخطابي ثم أعقب الحفل "تجويلنا" عبر القطار في بعض مرافق الجامعة على نحو مكنني من إدراك قيمة وجمالية هذا المبنى، وظننت أن كل فتاة جامعية تنتسب لهذه الجامعة وتدخل هذا الصرح الراقي ستكون أحرص الناس على استمراره وبقائه متوهجاً، لكن التقرير الصحفي المنشور يقول بعكس ذلك تماماً ويشير إلى أن العاملات الشرق آسيويات يباشرن منذ الصباح الباكر وقبل بدء الدوام والدراسة في كنس ومسح بقايا فضلات ومخلفات ومقذوفات الطالبات والمنسوبات المتراكمة من أمس، وتقول المحررة شيهانة القبلان إن عاملة النظافة تحدث نفسها كل يوم وهي في طريقها في الصباح الباكر إلى الجامعة أنها ستجد المكان هذه المرة نظيفاً أو كحد أدنى شبه نظيف، وألا يتكرر المشهد المأساوي لكن أملها يخيب وهي تعاود تنظيف وتجميع مخلفات أمس وتستكثر هذه العاملة في دواخلها على فتيات تجاوزن مرحلة الطفولة وبدأن السير في مدارج السن المؤهلة للزواج أن تكون ربة الأسرة ومربية الأجيال القادمة على هذا النحو من الإهمال واللامبالاة والاتكال على فريق النظافة الشرق آسيوي، هذا رغم توافر سلال المهملات التي يمكن لكل فتاة أن تقذف فيها علب العصائر والمشروبات ولفائف السندوتشات وبقايا الفطائر والأطعمة التي تغص بها بعض ردهات الجامعة كما يعبق المكان بروائح القهوة والشاي المنسكب في الممرات.

كيف عجزنا أن نربي في أجيالنا خصلة المحافظة على نظافة المكان الذي نغشاه وأن نتركه نظيفاً كما نحب أن نلقاه؟!

وكيف عجزنا أن نربي أجيالنا على نظام الاصطفاف في الطابور بدلاً من المكاتفة والمناكفة والتزاحم اتكالاً على مقولة تشربناها وهي "إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب" وهل حان الوقت لتندثر وتنحسر من عقولنا وصايا الغابة؟!

أين أثر خطبة الجمعة إن لم تعلمنا سلفاً أن نركن سياراتنا في المكان الصحيح قبل دخول الجامع وأن نتخلى عن الأنانية الصرفة ونوقفها كيفما نشاء بما يؤذي جيران المسجد ومرتاديه؟

وأين دور القدوة إذا كان المسلم المصلي ينسى الإحسان وينسى أن الدين المعاملة فلا غرابة أن يكون هو من المزاحمين الذين يعتبرون الطابور ترف وبدعة ولا غرابة والحال كذلك أن يكون النتاج التربوي كما نرى.

ثم أين دور المعلم وهو الجدير بأن يقتدى ويحتذى وأنت تراه يزاحم ويقذف ويسخط ويشخط.

الأكيد أنه لا يضبط البشر مثل النظام ولا يردعهم مثل العقوبة ولهذا فإن من الواجب ضبط السلوك بما يحقق الهدف وعليه فلا بد من "ساهر" في المدارس والجامعات وقطاع الخدمات التي يتكاثف فيها الناس بشكل مخل ومخجل، كما يجب مراقبة الطريق الذي تتطاير من نوافذ سياراته العلب والأغلفة والمناديل بلا حسيب أو رقيب كما يجب أن تتداعى العائلات لاختلاق ما يمكن أن نسميه "يوم بلا شغاله" يتولى فيه أهل البيت وأفراده المسؤوليات التي تتولاها الشغالة، لعلنا نكتسب بعض المهارات المنزلية المفقودة ونربي أجيالنا على الحد الأدنى من العمل ثم لعلنا ندرك الدور الهام لعاملات المنازل بافتراض غيابه أو انقطاعه لأي سبب كان.