ويواجه قطاع الاتصالات حاليًا موجة تخبط عالمية فيما يتعلق بتحديد المنهجية الصحيحة لتنفيذ ونشر شبكات الجيل الخامس؛ خصوصا في مجال المعايير والأساليب التي ينبغي اعتمادها في تنفيذ البُنى التحتية لهذه التقنية ونشر شبكاتها.
ويُمكن للقرارات التي تُتخذ خلال الفترة الحالية بشأن تبني أي منهجية أن تحفز أو تُعيق أطر العمل على بناء الاقتصاد الرقمي وتحقيق أهداف التحول الرقمي في مختلف دول العالم، بما فيها المملكة العربية السعودية. يرتبط نشر وتنفيذ أية تقنية جديدة بمعايير ومقاييس دولية يتم التوصل إليها وإعلانها من قبل منظمات وهيئات دولية مستقلة.
وقد بدأ العمل على توحيد معايير شبكات الجيل الخامس في أوائل عام 2016 تحت مظلة مشروع شراكة الجيل الثالث المعروفة اختصارًا بـ (3GPP).
ولا يزال هذا المشروع يلعب دورًا مهمًا في تطوير المواصفات الفنية العالمية والحفاظ عليها؛ لضمان قيام مصنّعي معدات الشبكات والهواتف بتطوير منتجات قابلة للتشغيل البيني في جميع أنحاء العالم. وتتعاون العديد من المؤسسات مثل الجمعية الدولية للهاتف المحمول (جي اس ام ايه) ومشروع شراكة الجيل الثالث مع جميع الأطراف من خلال مواصفات ضمان الأمن والشهادات المستقلة (NESAS) في القطاع التقني لتعزيز مواصفات أمن تجهيزات الشبكات وتوفير الشهادات المستقلة لها من أجل وضع نهج موحد للأمن السيبراني في قطاع الاتصالات. ولاقتْ هذه المبادئ الأساسية قبولًا واسعًا في القطاع التقني، وتبناها أغلب مشغلي الاتصالات عالميًا باعتبارها ستؤدي دورًا مهمًا في تطوير الشبكات الآمنة والتحقق منها.
خلال الفترة الحالية، أصبح برنامج شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة Open Ran موضوعًا ساخنًا على الساحتين العالمية والإقليمية؛ واختلفت الآراء المتخصصة حول فاعلية الانضمام له والالتزام به ومدى جدواه وحقيقة الوعود التي يحملها، خصوصًا تلك التي تتعلق بالحد من تكاليف التشغيل لمشغلي الاتصالات. برنامج شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة Open Ran هو مبادرة أمريكية لمنهجية تختص بطريقة تنفيذ شبكات الجيل الخامس من الاتصالات، تعتمد على دعم مبدأ التشغيل البيني بين أجهزة الجيل الخامس المصنَّعة من قبل مصنِّعين مختلفين ولا تعتمد على مورد واحد فقط. برنامج أطلقته وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية، الهدف المعلن منه تشجيع تشاركية الموردين للمعدات والمنتجات والحلول ضمن شبكات المشغلين، لكن العديد من المتخصصين يعتبرون أن مبادرة إطلاق البرنامج قد تصب في خانة محاولات الإدارة الأمريكية كبح جماح ريادة الصين للتكنولوجيا وخصوصًا فيما يتعلق بريادة شبكات الجيل الخامس عالميا التي بزغ نجم المارد الصيني هواوي فيها وباتت العديد من شبكات الاتصالات تعتمد معداته وحلوله الحصرية المتقدمة عن غيرها. عدد لا بأس به من خبراء الاتصالات بدأوا مؤخرا بإعادة النظر في موقفهم من البرنامج، وانطلقت قنوات نقاش عديدة تستهدف إعادة تقييم النتائج والوعود التي رافقت إطلاقه، خصوصًا تلك التي ترتبط بفتح آفاق جديدة لمستقبل تطوير عمل الشبكات وتعزيز مردودها الإيجابي على الأعمال والأفراد.
كما أن الوعود الخاصة بتخفيض تكاليف التشغيل بالنسبة لمشغلي الاتصالات لم تثبت جدواها. وفوق ذلك كله، كون البرنامج مجرد آلية عمل لتنفيذ الشبكات ولا تشكل معيارًا موحدًا لها كما تم الترويج لذلك، والحقيقة أن البرنامج فعليًا لا يتم تنفيذه على ضوء المعايير والمقاييس الدولية المتفق عليها والمشار إليها سابقا. حكومة المملكة المتحدة كانت من أوائل المتبنين لبرنامج شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة وأصدرت تفويضًا للعمل بموجبه بعد إطلاقه مباشرة، لكن سرعان ما تغير موقفها بعد إعادة النظر في جدوى التطبيق العملي للبرنامج ودعت في آخر بيان أصدرته إلى خفض سقف التوقعات بشأن الاعتماد عليه.
عدد من المختصين الذين دعموا تبني منهجية البرنامج بدأوا يدركون أنه من المحتمل أنهم تسرعوا في التصويت لصالحه بعد إدراكهم أنه لم يتم اختبار كفاءته العملية ضمن سيناريوهات واقعية لوقتٍ كافٍ ولم يتم التحقق فعليًا من وعود مردوداته.
وحتى في الولايات المتحدة، راعية البرنامج، يشكك عدد من التنفيذيين رفيعي المستوى في شركات الاتصالات بقدرات هذا البرنامج وكونه غير ناضج فعليًا ولا يمتلك إحاطة شاملة في مجال اختبار مختلف سيناريوهات تطبيقاته الميدانية.
وذهب بعضهم أيضًا للقول إنه قد لا يمكن فعليًا نشر شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة إلا في عصر الجيل السادس.
مجموعة Dell'Oro للأبحاث توقعت أن القيمة السوقية لبرنامج Open Ran بلغت 500 مليون دولار فقط في عام 2021، أي أنها لم تشكل سوى جزءٍ صغيرٍ جدًا من القيمة السوقية السنوية لشبكات الوصول اللاسلكي من الجيل الخامس المعروفة باسم (RAN)، التي تبلغ 38 مليار دولار. وعلى ضوء التوقعات الحالية، لن تتجاوز قيمة هذه المنهجية 10% من القيمة الإجمالية لسوق شبكات الوصول اللاسلكي بحلول عام 2025. السبب المباشر في خوض تفاصيل مسألة تقنية كهذه هو تسليط الضوء على حيوية دور تقنية المعلومات وتحديدًا الشبكات في مستقبلنا وأهمية العناية بالقرارات التي تتخذ في هذا المجال.
من المهم أن يحمل المختصون والمسؤولون في قطاع الاتصال وتقنية المعلومات مسؤولية مستقبل التكنولوجيا باعتبارها أحد أهم محفزات النمو والتطور المستقبلي.
لذا فإن قرارات كتلك التي تتعلق بتبني برنامج Open Ran يجب أن تتم بناء على واقع ومستجدات شبكات الاتصالات التي باتت تؤثر في تقدم مجتمعاتنا والخدمات المقدمة للمستهلك وآفاق تطوير مختلف الأعمال. الاتصالات وتقنية المعلومات محور مهم لدفع عجلة التحول الرقمي وبناء الاقتصاد المستدام المبني على المعرفة.
ولا يقتصر دور شبكات الاتصالات اليوم على تطوير قطاع الاتصالات بل تلعب دورًا مهمًا في تطوير مجتمعاتنا وتحفيز مزيد من عوامل الانتعاش الاقتصادي. وفي ظل ما يشهده العالم من موجات تحفظ بشأن اعتماد برنامج Open Ran، يجب التفكير مليا في مسألة تبني منهجيته والتمعن مليا في السيناريوهات الواقعية التي قد تواجهها خدمات الجيل الخامس والعقبات المحتملة التي قد تعيق الخطوات الحثيثة لتطوير شبكات الجيل الخامس في المملكة العربية السعودية التي تسعى جاهدة للاستفادة من التقنيات الحديثة والابتكارات المتطورة ونشر فوائدها على طريق تحقيق التطور والنمو الاقتصادي والاجتماعي.