في حديث جمعني مع صديق، تركزت الأسئلة عن أسباب التوتر الأمني الذي حدث مؤخرا في لبنان، وبشكل خاص التداعيات التي حدثت بمدينة طرابلس. وقد استدعى ذلك تحذير بعض الدول لمواطنيها من السفر، وتشجيع من يوجدون بلبنان على مغادرته بأقصى سرعة ممكنة. ورأيت أن الأسئلة بدت مبسطة جدا، وأن الصحيح هو طرحها مقلوبة، فتتركز حول أسباب تأخر انفجار الوضع اللبناني، لأن كل المؤشرات المتوافرة تؤكد حتميته، ولا تشي بإمكانية تأجيله.

فهناك نظام صمغي، استمد حضوره، منذ استقلال لبنان من توافقات طائفية، بين النخب السياسية. وقد جرى تعريف ذلك مجازا بالميثاق الوطني. وللأسف لم يكن للبنانيين علاقة مباشرة بصياغة هذه الهيكلية. فقد مثلت تسوية بين جملة من التجاذبات الدولية والإقليمية، التي ارتبطت، في الأساس بالتنافس الدولي على تركة الرجل المريض بالأستانة. وقد عبرت الصياغة الفرنسية للميثاق الوطني، بعد الاستقلال، بصدق عن طبيعة التوافقات والتحالفات والصراعات بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. وأخذت بعين الاعتبار حقائق القوة ومصالح تلك القوى.

وللأسف، فإن صناعة القرار في لبنان، منذ الاستقلال، حتى يومنا هذا، صارت تصنع من خارج لبنان، بما في ذلك الحربين الأهليتين، في نهاية الخمسينيات ومنتصف السبعينيات من القرن المنصرم. والنتيجة أن النظام السياسي في لبنان، بخلاف معظم الأنظمة العربية، أصبح محكوما بمقولة كثير من الحرية، وقليل من مؤسسات الدولة المدنية. وكانت الحرية، في حقيقتها هي الوجه الآخر للصراعات الإقليمية والدولية، حيث الكل من القوى المتنفذة، يحظى بفرص معقولة للتعبير عن مناهجه وبرامجه السياسية.

هذه المقدمة تقودنا إلى طريحتين مهمتين... الطريحة الأولى مؤداها أن لبنان بين خيارين رئيسيين. إما نيل استقلاله السياسي الكامل، المعبر عنه بالقدرة الذاتية على صناعة القرار المستقل، وهو ما لا تلوح عناصر تحققه بالأفق، أو البقاء في حالة التأرجح بين فسحة قصيرة من الاستقرار، ما يلبث بعدها المتصارعون من العودة إلى حلبة التنافس.

الطريحة الثانية: أن استقرار لبنان رهن لاستقرار وتوافقات أخرى بين القوى التي تهيمن على صناعة القرار فيه، وتتحكم بأقداره. فحينما تتوافق دول الجوار، والقوى الإقليمية الفاعلة على أجندة سياسية، وتدعمها في ذلك القوى الدولية، ينعم لبنان باستقرار، وتعود البهجة إلى أبنائه، وتنشط فعالياته السياحية مجددا. أما حين تنشب الصراعات بين هذه القوى، فإن لبنان سيكون أمامه صيف ساخن لا يعلم أحد منتهاه. ويكون مصير اللبنانيين معلقا على أجندة أو اتفاق آخر بين القوى الإقليمية المتصارعة. وخلالها تسيل الدماء، وتتوقف الأنشطة الاقتصادية والسياحية. وقد حدث في السابق، أن استمر الصيف الساخن لما يقرب من عقد من الزمن.

يضاف إلى ذلك مسببات ونتائج الأزمة السورية، فسوريا ولبنان، تجمعهما حدود واحدة من الشمال إلى الجنوب. وتنقسم الولاءات السياسية، تجاه ما يحدث في سوريا، على أسس طائفية. إلى جانب حالة الاصطفاف السياسي، التي قسمت اللبنانيين أفقيا، منذ منتصف السبعينيات، بين موالاة ومعارضة، ما تلبث الصورة أن تنقلب، فيتبادل السياسيون الأدوار تبعا لنتائج صناديق الاقتراع، المحكومة هي الأخرى بقوة تدخل الأطراف الإقليمية فيها، وأريحيتهم مع هذا الفريق أو ذاك.

وليس بالإمكان تجاهل حقيقة أخرى في هذا السياق، هي أن طرابلس ليست كبيروت. وقد انطلقت بؤرة التفجر منها. فهي قياسا لما هو متعارف عليه في بلدان العالم الثالث، تأتي رغم أهميتها ضمن قائمة مدن الأطراف، حيث تنعم العاصمة بالمكاسب والمغانم، وتصبح مركز جذب واستقطاب لرؤوس الأموال، بينما تظل الأطراف غارقة في بؤسها ومعاناتها. مع حالة الاحتقان السياسي الذي امتد عميقا بالمجتمع الطرابلسي لسنوات طويلة، والملاحقات التي شهدتها المعارضة خلال العقود التي مضت، وانتشار حركة التسليح، بين جميع الأحزاب والتيارات، وانشطار المجتمع حول ما يجري في سوريا منذ تفجرت الأزمة، التي ستكون تأثيراتها على لبنان موضوعا لحديثنا القادم بإذن الله.