ولست أدري لماذا لم أحب تلك «الشقة» رغم أنهـا كانت تحتل الدور الثاني بكامله في عمارة من ثلاثة أدوار.. إلى جانب جيرة كريمة من المهندس أحمد الشربيني - بوزارة البترول - وزوجته وابنه الصغير الذي أحببناه.. ومن الإعلامي المهذب والإنسان الأسـتاذ خميس سويدان، الذي أصبح فيما بعـد مديراً عاماً لإذاعة الرياض، بل ورغم قربها الشديد من بيت خالتي وابنها الأسـتاذ منيـر وزوجتـه.. الجديد، الذي انتقلوا إليه بعد أن باعوا بيتهم السابق في «باب شريف» وتركوا الحارة وأهلهـا وجـيرة العم «علي زكي» التي لا تنسى..ورغم ملاصقتها لـ«بيت باجنيد» حيث زملاء وأصدقاء الثانوية العامة: الأخوين «سالم» و«أحمد» اللذين حرمهمـا والدهما الشيخ عبد الباسط من الذهاب إلى «الجامعة» لسبب أو لأسباب لا يعلمها إلا الله والشيخ عبد الباسط نفسه.. رغم أنهما كانا جديرين بالالتحاق بها، والنجاح والتفوق فيها، ثم إنه كان على مقربة منا الأخ الكبير والصديق العزيز الشيخ عبد الله بن عفيف.. الذي كان منزله «بيتاً» لنا نأكل ونشـرب فيه.. و«ناديا» نتسامر فيه قبل وبعد زواجه بلعب «البلوت» وصياحه وضجيجه وضحكاته أمسيات الخميس من كل أسبوع.. فإذا جاء مساء الخميس الأول من كل شهـر صـعـدنا إلى سطح المنزل، وصـمت ضجيجنا، واختـفى صياحنا وأصخنا السمع لـ«أم كلثوم» وشدوها وشجوها ورسائلهـا الملتاعة في «ياظالمني» و«أهل الهوى ياليل» و«قصة حبى»، كما كان على مقربة منا «فيلتا» المرحوم الشيخ أحمد بابروك وكيل وزارة المالية المساعد: الرجل الطيب.. قلبـاً، والكريم.. نفـساً، والنبـيل.. خلقاً، بـأبوابها المفـتـوحـة لنا... وبحدائقها.. وبأبنائه عبد الله وعبد العزيز وسـعـود الذين كانوا لنا إخوة وأصدقاءً رغم أن البعض منهم كـان يكبـرنا والبعض الآخـر كـان يصغرنا.
لكن كل هذه الأسباب على وجاهتها، لم تدفعنا إلى مزيد من «البقاء» في حي «الكندرة».. الذي كان في أسـاسه القديم ضـاحـية من ضواحي جدة.. كـ«الهنداوية» و«النزلة» و«العمارية» و«الرويس» و«البغدادية»، ثم تواصلت كل هذه الضواحي مع «جدة القديمة» بأحيائها الأربعة الشهيرة (الشام، والمظلوم، واليمن، والبحر) لتقوم «جدة الوسطى».. التي ضاعف من حجمها مرات ومرات مهندسـهـا الفنان والعاشق لها الدكتور محمد سعيد فارسي.. بامتداداته الشمالية الغربية والشرقية.. التي وصلت إلى بني «مالك» وما فوق «الرويس» ومـا بعدهما شـمالاً وشرقاً وجنوبا.. لتقوم «جدة الكبرى».
على أن لضاحية «الكندرة» ـ كما لضاحيتي «العمارية» و«النزلة» - أهمية تاريخية كبرى.. فقد شهد «قصر السقاف» على طرفها الشمالي على (الذي أصبح يعرف فيما بعد.. بقصـر الكندرة) لقاء الملك عبـد العزيز بـ«قائمقام» جدة الشيخ عبد الله زينل.. حيث تم التوقيع على استلام جدة، كما ضمت ضاحية «العمارية» فيما بعد.. أول منزل خاص يسكنه عبد العزيز - طيب الله ثراه - في جـدة، ثم انتقل مقـره فيمـا بعد إلى قصر «خزام».. الذي أعاد بناءه الملك سعود فيما بعد في أجمل وأضخم عمارة، والذي يطالب أبناء جدة ـ الآن ـ وفي مقدمتهم الدكتور محمد سعيد بتحويله إلى متحف وطني للملك عبـد العزيز وآثاره ومقتنياته في جدة.
انتقلنا إلى حي «البغدادية» الغربية بعـد ثمانية شهور.. حيث سكنا «فيلا» صغيرة من ثلاثة غرف وصالة وشرفة كبيرة سرعان ما حولناها إلى غرفة استقبال، وضعنا فيها غرفة الاستقبال «العصرية» التي شحنتها من الإسكندرية إلى جدة بحـراً، والتي وصلت مع وصولنا إلى «البغدادية» ، هي وبقية ملابسي وكتبي وأسطواناتي وأحذيتي.
لا أتذكر أسبـاب تعجلنا في مغادرة «الكندرة»، إلا ان هناك سبباً أكثر وجاهة .. فقد كنا نسكن في «حارة البحر» مع أعمامي الثلاثة وزوجاتهم وأبنائهم وبناتهم في بيتين متلاصقين ومتصلين. يتكون كل منهـما مـن ثلاثة أدوار.. فلم يكن لدينا في نفس المنزل من يشاركوننا سكناه، وقد كان ذلك أحد أسباب الحاح زوجة شـقيقي على مغادرة شقة «الكندرة».. والانفراد بسكـن خاص بنا لا يشاركنا فيه أحد، إلى جانب تفضيلي لذلك.. وتأييدي له.
كان حي «البغدادية» الغربية.. أكثـر هدوءاً.. وأكثر تنظيماً.. بل وكان على ما يبدو مـوضع عناية واهتمام «البلدية» ومسؤوليها، فقد كان في غربه قـصـر الزاهر للضيافة.. كما كان في جنوب شـارعـه الثاني الذي سكناه (شـارع حسـان بن ثابت.. المتقاطع مع شـارع المدارس) «المكتب الخـاص» لسمو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير فيصل فـ«الملك» لاحـقـا.. وكـان في شـمـاله: مكتب وزير العمل والشـؤون الاجتـماعيـة، ولذلك فقد حظي الحي على وجه العمـوم والشارع الذي نسكنه على وجه الخصوص بأقصى درجات الاهتمام والرعاية، أما الديوان الملكي ـ أيام الملك فيصل ـ فقد كان في الجنوب الغربي من حي «الشرفية» بين طريقي المدينة (الصاعـد والنازل).. في ذات المبنى الذي تحتله الآن محافظة جدة، وقد كان الملك فيصل يسـتأجر المبنى من «آل زينل» منذ سـنوات خلت وإلی أن أصـبح ملكاً للبـلاد، وعنـدهـا حـدثه أصـدقاؤه من «آل زينل».. بأنه يصح أن يكون له مكتب وسكن أوسع وأفخم من مبناهم.. فـقال لـهـم ـ والعهـدة على الرواة: أتريدونني أن أخلي لأنني لم أدفع الإيجار..؟ فـصـمـتـوا وظل به إلى أن مات.. - رحمه الله - دون أن يغادره حـتى إلى السكن الخاص الذي أقيم له على الطرف الجنوبي الغربي من حي «الروضـة» الجـديد والبـهـيج.
لقـد كـانت تلك إحـدى إيجابيات الملك فيصل.. إلى جانب زهده واستقامته الشخصية وحرصه على المال العام ودقـة مواعيده التي كان يتحدث عنهـا القاصي والداني من الملتصقين به، وإلى الحد الذي يجعلك تضبط ساعتك ـ كما يقولون - على مواعيد خروجـه ودخوله من وإلى البيت.. أو مـواعيد قدومه إلى المكتب وانصرافه منه.
2001*
* كاتب وصحافي سعودي «1940 - 2021»