ليست الوثائق، والمدونات التاريخية وحدها من يروي للشعوب شيئا من حكايتها، وفصول نضالها، بل حجزت "الصورة" في فترة تاريخية مبكرة موقعها المتقدم إلى جانب تلك الوثائق. وقد تمكنت كاميرا عدد من الغربيين إلى جانب عدد من المصورين المسلمين على قلتهم من التقاط عشرات الصور للقدس، والتي باتت اليوم بعد خروجها بنسختها العربية تمثل إرثا ثقافيا وتاريخيا يقدم للشعوب شيئا من سيرة القدس ونضالها.
وظلت "القدس" إضافة إلى موقعها التاريخي والجغرافي واحدة من أكثر المناطق التهابا عبر تاريخها السياسي، وقد زاد الاهتمام بصورها بعد ضم الاحتلال الإسرائيلي للمدينة عام 1982 حيث أعدت مجموعة من الألبومات. إلا أن رغبة ناشري هذه الألبومات ـ كما تكشف الوثائق ـ أثرت في اختيار الصور.
وقد تمكن مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية "إرسيكا" بإسطنبول مؤخرا من طرح النسخة العربية من ألبوم "القدس من خلال الصور التاريخية" وهو يقدم صورة واضحة لتاريخ وتراث تلك المدينة التي تحتضن ديانات متعددة.
مركز استيطان
مدير عام إرسيكا الدكتور خالد أرن ذهب إلى أنه يستدل مما ورد في المصادر المختلفة، أن القدس أصبحت مركزا للاستيطان منذ نحو 4 آلاف سنة، في حين أظهرت المكتشفات الأثرية بوجود القدس كمركز استيطاني منذ 5 ـ 6 آلاف سنة، وقد عرفت بشكل عام بأسماء توحي إلى القدسية، وغدت محورا للوجود الإنساني على سطح الكرة الأرضية أكثر من كونها مجرد اسم.
وأكد الدكتور أرن أن الصور التي التقطت عن القدس تعود إلى أواخر القرن الـ19، وتكشف عن التطور الذي شهده فن التصوير حيث أصبحت الأراضي المقدسة "فلسطين والقدس" على رأس المناطق التي حظيت باهتمام طلائع السياح الأجانب، فالكثير من المصورين الذين زاروا القدس ـ بحسب أرن ـ قاموا بالتقاط صور مختلفة لأهالي المدينة وطرقها ومبانيها.
وعن مدى أهمية هذه الصور التي تنشر لأول مرة أكد خالد أرن أن "أوساطا كثيرة أبدت اهتماما بهذه الصور، ويأتي السراي العثماني على رأسهم، حيث تحتل صور القدس حيزا لا يستهان به ضمن مجموعة الصور الخاصة التي أعدت في عهد السلطان عبدالحميد الثاني الذي أولى اهتماما خاصا بها، وهذه المجموعة ليست عبارة عن صور التقطها المصورون السياح من الأجانب، بل تشمل عددا كبيرا من الصور التي التقطها المصورون العثمانيون، وقد تمت المحافظة على هذه الصور في مركز إرسيكا إما بطبعها أو بخزنها في أجهزة الحاسوب".
وأشار مدير عام مركز إرسيكا إلى أنه تم اختيار القسم الأكبر من الصور الواردة فيه من مجموعة ألبومات صور قصر يلدز، مضيفا "أن أصول هذه الصور محفوظة في مكتبة جامعة إسطنبول، وقد تم استنساخ نسخة منها أرشيف إرسيكا".
وتابع "وسبق لمركز إرسيكا أن قام بإصدار هذا الألبوم باللغة التركية وهو اليوم يقدمه بالعربية".
ألبوم للتاريخ
الباحث كريم بالجي الذي أعد الألبوم ذهب إلى أن الرهان الأساسي لهذا الألبوم لا يتمثل في كثرة الصور التي يتضمنها أو انفراده بنشر الصور أو جمعها، وقال "هو ألبوم للتاريخ والثقافة والهواجس والطموح، وينبغي ألا يفهم من هذا الاستهانة بالقيمة التاريخية والفنية للصور الموجودة فيه فكل صورة واردة اختيرت بعناية من بين عشرات الصور وكل مشهد من مشاهدها تمت دراسته والسعي إلى متابعة آثار الانعكاسات الخاصة للزمن الذي يحل وينقضي به".
وأضاف بالجي أنهم سعوا إلى النظر إلى الصور القديمة للقدس من مسافة تمتد إلى قرن من الزمن وتحدث النسيان، وتابع "ولا يمكن أن نتوقع أن نظرة كهذه تكون خالية من الأخطاء والهفوات لأن ذلك يعتمد على الثقة المفرطة للإنسان بقدراته".
وأشار كريم بالجي إلى أنه عند إنجاز هذا الكتاب استعانوا بالألبومات المتوافرة والمؤلفات التاريخية وتحاليل الصور، مشيرا إلى أن ما يلفت النظر في الكتاب من جمال معظمه إلى الآخرين ومن ضمنهم معماريو القدس.
الشرق والتصوير
أسباب فنية كثيرة جعلت الشرق ـ كما جاء في مقدمة كتاب القدس في الصور التاريخية ـ مبعث اهتمام للمصورين يعرض لها الألبوم، من بينها وجود ضوء شمسي أكثر حيوية قياسا إلى أوروبا الغربية التي تطور فيها فن التصوير، وتأتي القدس لأسباب دينية وتاريخية واضحة ضمن الأماكن التي حظيت باهتمام المصورين الأوائل كالأهرامات المصرية وأطلال بابل في بلاد ما بين النهرين.
وعند حلول عام 1840 كانت مصر، والقدس تحت حكم محمد علي باشا، ونجح خديوي مصر في إقامة علاقات ودية ومتطورة مع الدول الغربية، إلا أنه دفع ثمن هذه العلاقات بالموافقة على قيام الأجانب بالتجوال الحر في أراضيه، وفتحت الدول الأوروبية قنصليات لها في القدس، وغصت مصر بالسياح والرحالة الأوروبيين الراغبين في مشاهدة النيل الساحر والأهرامات وكذلك جبل الطور في شبه جزيرة سيناء.
ولم تمر سنة على إعلان "دايري" لثورته في تاريخ فن التصوير عام 1830، حتى بدأ مصورو الداجيرو الأوائل بغزو الشرق. ويقال إن أول من زار القدس من المصورين هو المصور فردريك كوبي فيسكو وكذلك الرسام هوراك ويرنيه. وقد تم إرسالهما إلى القدس من قبل بائع نظارات فرنسي لغاية اقتصادية استثمارية.
"النقتيف" المبتل
وتشير الوثائق التاريخية إلى أن "الثورة الثانية" في فن التصوير بدأت مع قيام سكون آرشر عام 1851 بتطوير ما يسمى بأسلوب "النقتيف المبتل"، وكان فرانجيس فريث الذي زار القدس عام 1856 يستخدم هذا الأسلوب الذي يستوجب عمل النقتيف على الزجاج، والذي كان يبقى مبتلا بشكل مستمر.
إلا أن الثورة الحقيقية تحققت ـ كما تذهب وثائق ألبوم إرسيكا ـ عام 1875 وذلك بتطوير أسلوب النقتيف الجاف، وتم في عام 1871 تطوير المواد الكيماوية المستخدمة للنكتف وذلك بنسبة كبيرة فتقلصت مدة العرض.
وفي النصف الثاني من القرن الـ19 كان يقدر عدد المصورين الذين يقيمون بالقدس أو يزورونها أكثر من 300 وكان بينهم أناس يطمحون في تصوير الأطلال الأثرية، أو جمع مواد تدعم ادعاء إيديولوجيا أو جمع ثروة بالصور التي يقومون ببيعها، وفي كل حال كان مصورو القدس من الممكن أن يكونوا من الباحثين والمبشرين والأكاديميين الرومانسيين ومنتسبي الكنيسة وكذلك الإمبرياليين وأصحاب القطاع الخاص والحجاج أو من كلهم مجتمعين.
ويفصح فن التصوير المقدسي المبكر عن 3 دواع أساسية: المصورون ذوو الروح الإنجيلية، وهم المبشرون الباحثون عن شهادة صورية عن عهد الكتاب المقدس بمشاهد شرقية، والمؤسسات البحثية والرحالة الذين يهوون التقاط الصور لتسجيل ما يكتشفونه عن الشرق وتدوين وضعه الأصيل، وأخيرا الأغنياء الغربيون المستعدون لدفع مبالغ عالية من النقود لأجل التقاط مشاهد صورية من الشرق فضلا عن توفير صور للمتاجر.
التصوير الإنجيلي
يرى المصورون الذين تبنوا التصوير الإنجيلي أن الناس في الشرق يعيشون الآن مثلما كانوا يعيشون قبل ألف سنة، فيأكلون وينامون ويعملون مثلما كانوا فإذا ما سجل هذا المشهد وانتشر في العالم، فإن هذه الصور توحي بأنها جاءت من عهد النبي عيسى بالذات ومن الأماكن التي تجول فيها، وفي الوقت الذي ظهر فيه فن التصوير فإن المصادر الإنجيلية ورسومها في الكنائس تتعرض إلى الانتقاد، لأن هذه الرسوم كانت تعكس عما يجول في مخيلة الرسامين.
وكان المصورون الإنجيليون يأملون في أنهم إذا قاموا بتصوير فلسطين في صورهم فإنهم سيقنعون الناس بأن النبي عيسى عليه السلام قد عاش فعلا، وأن القصص الواردة في الإنجيل هي قصص صحيحة. وهذا الأمل دفعهم إلى البحث عن مشاهد شبيهة بالمشاهد الواردة في القصص التي قرؤوها في الإنجيل وتحقيق هذه المشاهد بوجه خاص مع تدخل خارجي وذلك في بعض المواقف.
عائلة بونفيليس
تعد عائلة ميسون بونفيلس التي كانت تقيم في بيروت الممثلة الناجحة للتصوير الشرقي الأصيل، ولم تكن هذه العائلة تعاني من هاجس ديني أو موضوعي آخر، بل كانوا يرغبون تسجيل الشرق الذي يثير إعجابهم والذي غدا متوجها نحو حافة الزوال تحت أنظارهم.
ولهذا السبب لم يترددوا عن استخدام العارضين، بحيث يقومون بجمع أشخاص يرتدون زيا أو يقومون بتقديم وجه غريب ذي لحية طويلة أو يهودي يمني أو مسلم مغربي كزائر، وكان رجال الدين الأرمن يقفون أمام آلات التصوير لتقديم لقطات ساحرة، ويتبعهم معلمو الحرف اليدوية من اليهود وهو ما يجعل الصورة الملتقطة عنهم من قبل بونفيلس كثيرة رغم قلة عددهم قياسا إلى المسلمين، وكذلك القرويين في القدس. وعلى الرغم من أن البدو كانوا يشكلون جزءا قليلا من سكان القدس، إلا أنهم ظهروا في الصور ليخلفوا انطباعا عن كون القدس مستوطنة بدوية. وكان القرويون العرب المسلمون لا يلفتون انتباه المصورين إلا عند انتشار مرض الجذام بينهم.
وعلى الرغم من أنهم استخدموا تقنية قديمة في التصوير إلا أن الصور التي التقطوها كانت واضحة وضوح ما التقط فيما بعد بمدة طويلة، إلا أنها كانت بعيدة عن تمثيل القدس بكاملها.
القدس "القديمة"
اعتبارا من النصف الثاني من القرن الـ19 وحتى خروج العثمانيين من القدس عام 1917 التقطت عشرات الآلاف من الصور عن القدس، الأمر الذي يدل على مدى الاهتمام الذي حظيت به القدس، وقد زاد الاهتمام بعد الاحتلال الإسرائيلي للمدينة سنة 1982 فأعدت مجموعة من الألبومات وذلك في الربع الثاني من القرن العشرين. إلا أن رغبة ناشري هذه الألبومات أثرت في اختيار الصور، ففي الألبومات التي صدرت من أجل دعم الأطروحات الصهيونية تقدمت في الواجهة وجوه الساكنين من اليهود في القدس.
وبرز إلى الوجود شكل القدس وقد تزاحم بين تحفيز المصور وإمكاناته الفنية، ففي الألبومات المتقدمة ظهر تأثير التصوير الإنجيلي أو التصوير الشرقي الواقعي، كما كانت تعيش في مخيلة المصور والتي أصبحت ملكا للماضي وتاريخا زائلا أكثر من القدس التي كانت تعيش وقت تصوير الصورة، وكانت جميع الألبومات تتميز بنقص مشترك وهو عدم دراسة أوضاع البيئة التي تم تصويرها أو المصور الذي التقط الصورة أو إمكانات المرحلة التي أنتجت فيها الصورة أو فكر المصور.
المسلمون لم يحبذوا آلات التصوير لمدة طويلة ولكي يتعلموا التصوير من الغرب ويبدؤوا بالتقاط صورهم احتاجوا لمرور 50 سنة، كما أن عدم اهتمام المصور اليهودي بالقدس يعد خسارة، ففي تلك المرحلة كان يهود القدس متدينين إلى حد ما، ويتعاملون مع هذا النتـاج الجديد للتكنولوجيا مثل المسـلمين بتحفظ. كمـا أن اليـهود المنحدرين من أصول روسية والساكنين في الكيبوتز لم يروا أي شيء جيد بالتخليد ليتم تصويره في القدس.
وتكشف المدونات أن الألبومات التي تم نشرها لحد هذا اليوم فضلت الحس البصري للصور على الحقائق التاريخية للقدس العثمانية، وهذا أدى إلى إفراز ألبومات لقدس خيالية.
أرشيف يلدز
تحتل الصور المحفوظة في إرسيكا والواردة ضمن هذه المصادر مكانة خاصة، والمعروف أن أرشيف يلدز للصور ظهر بعد الاهتمام الكبير الذي أولاه السلطان عبدالحميد الثاني للصور.
وقد ساعد هذا الأرشيف على اجتياز النقد المتعلق بالاتجاهات التي تصادف في عملية تطور التصوير المقدسي إلى حد ما.
وذلك لأن أرشيف يلدز للصور تم جمعه بالاستفادة من المصورين المحليين إلى درجة كبيرة، كما أدخلت فيه الصور التي التقطها بعض المصورين الموفدين من إسطنبول بشكل خاص.
وتكمن القيمة الثانية لأرشيف يلدز للتصوير الذي يحافظ عليه إرسيكا في اقتنائه بعض الصور الفريدة التي لا توجد في أي مصدر من المصادر، وكذلك وجود النسخ الأصلية لمجموعة من الصور في إرسيكا فقط ووجدت نسخ أخرى منها ملونة بطريقة الفوتوغراف.
ويحتفظ إرسيكا أيضا بمجموعة من الرسوم المتعلقة بالقدس وهي مهمة لإظهار ما كانت تعني القدس بالنسبة للإدارة العثمانية في تلك المرحلة.
وتقدم الصور عددا من المناظير للقدس من بينها صورة للقدس من جبل الزيتون والذي كان ملهما لعشاق القدس عبر التاريخ، وهو يعكس المدينة من الجهة الغربية، ويظهر صخورا.