وإنَّ لي مع جازان عهد لا تُخلِفُه الليالي،

ولا تنتهك حُرمَتَه الأيام!

ولها عندي معجزاتُ الحبّ واستقامات الجمال الربّاني! .


لذا تظل هي ابنتي البكر، وأنا طفلتها.. كيف هذا؟! هكذا هي! بها يعتدل الاعوجاج، ولديها الضلعُ المكافئ الذي به تستقيم معادلات الحُسن والعظمة والانبهار!

إذا حل الشتاء لبست حلّتها القشيبة، وعطرت جسدها المعطّر، وأمسكت بمقبض سيفها، ترقص العرضة، فتردد الجبال والسهول، وتلوِّن وجهها فيصبح كل إسفلتٍ مزرعة، وكل بنايةٍ قصرا منيفا!

يأتي الشتاء فيها وليس صقيعا.. وإنما نَسَمات المحبَّة، ولفحة الدفء، كأن هواءها حضن غير مرئي يطوق خاصرة الكون، فتسمع غناء ملائكيّا، وإنشادا دينيا، وترى رقص الوقار والهيبة، و«هايكنج» الشواطئ، وتسلُّق الجبال، ومهرجانا تلو مهرجان، فتكاد تجري لكي لا يفوتك موعد، فتجدها في الجهة الأخرى تأتيك جريا، حاملة كل ما فات في ندى الصباح!

تنظر جازان إلينا من أعلى، فكلُّ عين طائر عيناها.. وكل رَفَّة جناحٍ حديثٌ لا يفقهه إلا أبناؤها، أو مَن ارتضتهم من زوار.

إنها جنة على الأرض، نرى فيها إبداع الخالق، فنكاد نُجن ونحن نفكر في جنَّةِ الآخرة!

وكنت أتفاخر بها، فما خذَلَتْني، وأحتمي بها، فتضمني.. أسأل صويحباتي إن كُنَّ يعرفن جزيرة فرسان أو المرجان، أو زُرْنَ مرَّة القرية التراثية، أو متنزهاتها، فأرى نظرات الاشتياق ترسم طريقا إليها كل شتاء.. فأقابلهنّ على الباب، وأقول: هذا بيتي.. إنها وطني.. جازاني!

وأذكر ذات ساعة في الكلية، أردنا كتابة موضوع يختزل جازان، ويحسن وصفها، فلم أقدر أن أصف ضوء الشمس لبصير، رأيتُ ساعتها أن كل نورس يسيح في السماء وكل مركب شراعي على صفحة الماء، وكل مانجو وفاكهة استوائية وعسل جبلي شافٍ بإذن المولى، رأيت أن أسماكها التي تتراقص أمام البائعين طعاما حلالا ورزقا طيبا، ولآلئها المختبئة بحرص داخل المحار، وعطورها الأوروبية التي صُب في قلبها قلب وردة حوتها تربتها، رأيت في كل ذلك حروف اسمها المنقوشة في كثبان الرمال وتكوينات الصخور وتمايل النخلات، وكلها تصدح - والله - بحب جازان.

هذا هو - بإخلال شديد - الشتاء عندنا في جازان، وهذه مهرجاناتها الشتوية تكرر نفسها كل ليلة، في كل نادٍ ومتنزَّه وشاطئ، صيفا وربيعا وخريفا.. إنها صفحات من أيام العرب السعيدة؛ أيام الاستمتاع بالحياة، والتريض، والترفيه.

إنها السعودية تقدِّم أخلص بناتها لمسابقة جمال لن ينجح فيها سواها، وهي كَفُّ ولاة الأمر تقلِّب الأرض ليبقى خصبها مُنتجا، وهي صوت الطرب يغرد للريح فتُصَفِّر آتية بين أغصان النخيل المتشابكة، ورقصة فرسان تُسكت كل طبل لحرب وتطفئ كل نار لحاقد، فيضحك النَّكد والحزن.

إنها ملحمة متكاملة الأركان، وأيام ليست كالأيام، ونفحة من نفحات الله تُعلِمُنا أن الخير في أمة محمد إلى يوم الدين، وأن ثرى الأرض الكريمة كريم مثلها، وعامر بالزعفران، ومخلوط بمِسك الأرض، حتى تكاد تتحمَّم بالطين!

إنه دليل على أن المملكة في رحلة إلى شمس النجاح لا تنظر إلى الوراء، وأن ربَّان السفينة ممسك بالدفة فلا تميل بميل الحاسدين، وأن الملاح الجوَّابَ على ساريتها يجد كل ساعة أرضًا جديدة، فيعمِّرها بنور الحكمة، ويشرعها للعالمين، لأن الأرض لله يورثها الصالحين.

لقد بدأت بلادنا بجازان، سألتها: ماذا لديك؟! فإذا بالنسيم (غير).. و(الفن) غير.. والضيافة (غير غير).. والسعادة (غير غير غير)!

هي والله داري التي لا تقبل بأنصاف النجاح.. وهي ابنتي التي ولَّت وجهها شطر رؤية نرى صداها في هذا الفتح العظيم، وهي أمي التي لوَّنت هذا الشتاء بلون الحناء!