جاءتني صغيرتي تتهادى، وفي عينيها ذهول يعتريه شك لحظي، في أن حب أبيها لها ليس مطلقاً، لا تحده حدود بل تعتريه القيود والاستثناءات، بسبب ما سمعته من أن الأب الحنون الرؤوف العطوف، قد يقدم على قتل صغيرته ودفنها حيةً في التراب.

فصعقت مما سمعته، وتلاشت كل الأفكار من عقلي ودنوت من نفسي كثيراً كي تنكسر وتبين لهذه الصغيرة عطف الأب وحنانه. وأخذت أتأمل أصل تلك المسألة التي آثرتها صغيرتي، فرجعت بالذاكرة قليلاً، فوجدتني لطالما قرأت بحوثاً في تلك المسألة المهمة جداً التي تمس عمق حضارتنا وقيمنا وديننا وثوابتنا العربية والإسلامية، تلك هي «وأد البنات»، المسألة المتعلقة بالجانب الأنثوي لدينا في حضارتنا ما هي إلا امتداد لإشكاليتنا مع القسم الآخر من تلك النفس البشرية التي لا تستقيم حياة إلا بها، ولا يمكن أن نحيا في هذا الكون إلا بأصل وجود هذا المكون الأنثوي الذي كان مستمداً من أصله ثم أصبح أصلاً لأصله بعد أن كان فرعاً من أصله، وهذا من المفارقات الإعجازية لخالق هذا الكون أن جعل جزء فرع الأصل، أصلاً لأصله، وهو دليل إبداع للخالق البارئ المصور لمن تفكر وتدبر.

وتلك الإشكاليات مع أصلنا الأنثوي في ظني أنها هي عمق إشكاليات مجتمعنا الفكرية المعاصرة، فما لم تتم إصلاحات فكرية حقيقية في كل ما يتعلق بهذا المكون الذي نقدسه تقديساً دنيوياً ودينياً، ونسعى كي يكون في أرقى وأنقى درجات الطهارة، فإن مجتمعاتنا سوف تظل تعاني من جراء عدم القيام بتلك الإصلاحات الفكرية، وذلك لأن الإشكاليات المتعلقة بهذا المكون الأنثوي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بكل تطور أو بناء ترمو وتصبو إليه كل جهة تنفيذية لديها قوة وسلطة في اتخاذ القرارات التي تمس البنية المجتمعية والأسس الفكرية التي يقوم عليها مجتمعنا المعاصر.


«وأد البنات» من تلك الإشكاليات الفكرية الثقافية التي تحتاج إلى علاج جذري، كي تتبين الحقائق، فإما ثبوتها وإما تأويلها تأويلاً سائغاً يتساوق مع مقاصد الشريعة الكبرى ومعاني اللغة الواسعة التي لا تقف عند حد ظرفي، سواءً كان زمانياً أم مكانياً.

لذا فإن مجرد طروء فكرة «وأد البنات» تجعل جلد الإنسان يقشعر ولا يكاد يستسيغ حياته، فلا يمكن أن يتخيل تلك المسألة عقل سوي في عالمنا المعاصر، ولو كان لا يحمل ثقافةً أو علماً أو معرفةً، فكيف بمن كانت لديهم العربية والخيال الواسع الذي أعجز من بعدهم في بلاغتهم وصورهم الأدبية، وكأنها أعلى مرتبات الملكوت والجبروت في إحكام وإتقان بلاغة الكلمة وسبك سياقات الجمل وقوة إدراج المعاني التي تسلب لب العقول الإنسانية. تلك العقول العربية كيف لها أن تقدم على فعل مشين تترفع منه المخلوقات التي لا تملك تمييزاً إلا ما ندر منها، فضلاً عن مخلوق قد أبدع مصوره في تكوينه «إن هذا لشيء عجاب».

وهذه مسألة مهمة جداً، وهي هل القيم الإنسانية في مجملها تختلف في قيمتها من عصر لآخر؟ وهل إنسان عصرنا أرحم وأنقى إنسانيةً من العرب في زمن الجاهلية، والذين اشتهروا بالحكمة والشجاعة والقيم الإنسانية في الجملة؟

لا شك أن صياغة خطاب نقي واضح يطرح التطرف ويتوسط بين الأفراط والتفريط، قادر على استحضار المغيب واستنطاق المسكوت عنه في مسألة «وأد البنات»، يمكن على ضوئه فهم كثير من الموروث الثقافي.

فكما أنه لا حرج في الدين فكذلك لا حرج في الفكر والمعرفة، فإن الإنسان في عصرنا متعبد دينياً بما ثبت يقيناً سنده، وقد تعلمنا خلال طلب العلم تمحيص الأسانيد وتتبعها ودراسة أحوال، فكل ما ورد ذكره في مسألة «وأد البنات» يمكن تأويله وتخريجه بما يتوافق مع العقل الذي جاءت الشريعة ومقاصدها لحمايته.

فكثير من المرويات لا تصح سنداً ويمكن تأويلها من حيث المتن، ولا شك أن مسألة «وأد البنات» لم تكن عادة لدى كل القبائل وإلا لانقرض العرب، والقاعدة في مثل هذه الموروثات والمرويات التي تمس كثيراً من إنسانيتنا مثل «وأد البنات» أنه كان يتوجب أن تنقل بشكل متواتر يقيني، لا يمكن أن يعتريه أي شك أو احتمال.

لذا فإن «وأد البنات» هي فكرة معنوية مجازية وليست على ظاهرها، يبقى السؤال عن الدلالة الضمنية لذكر مسألة وأد البنات؟ والإجابة أن هناك دالا ومدلولا ولفظا ومعنى، وبينهما ارتباط وثيق، وعند تمحيص تلك الدلالات والمعاني فإن كثيراً مما يستعصى على الفهم في السابق سوف ينجلي ويتضح بعمق وسعة معارف وأطروحات وإمكانيات واقعنا المعاصر، ذلك أن الدلالة من ذكر مسألة «وأد البنات» هي التنفير من هضم حقوق هذا المكون الأنثوي الضعيف، وتحذير من الأمة التي تظلم وتسحق هذا الجنس الأنثوي، فإنها تكاد تئد نفسها، وتسعى إلى نقض أصلها، ووقف الحياة البشرية. فهذا المعنى هو المقصود الحقيقي من استجلاب هذا المصطلح الذي له وقع في النفس شديد جداً، بل يكاد يزهق نفس الأب الذي تأتيه ابنته، فتسأله عن سبب قتل الأب لصغيرته التي للتو وضعتها أمها! ذلك شعور لا يمكن أن يتخيله عقل، فلما استرجعت شيئاً مما قرأت في هذه المسألة، قلت لبنيتي:

إن عالماً من علماء التفسير وهو الطاهر بن عاشور ذكر «ومن آثار هذا الشعور كراهية البنات وعدم الرغبة فيهن».

حرمان البنات من أموال آبائهن بأنواع من ‏الحيل مثل وقف ‏أموالهم على الذكور دون الإناث، وقد قال مالك: إن ذلك من سنة ‏الجاهلية، ورأى ‏ذلك الحبس باطلاً.

وكان كثير من أقرباء الميت يُلجئوا بناته إلى إسقاط ‏حقهن في ‏ميراث أيهن لإخوتهن، في فور الأسف على موت أبيهن، فلا يمتنعن من ذلك ويرين ‏‏الامتناع من ذلك عاراً عليهن، ‏فإن لم يفعلن قطعهن أقرباؤهن.‏

وتعرف هذه المسألة في الفقه بهبة بنات القبائل. وبعضهم يعدها من الإكراه.