إذا كانت (الأيام) الشهيرة لطه حسين تفجّرت إبداعيا مع تصاعد أزمة كتاب (في الشعر الجاهلي) سنة 1926، حين ثار الثائرون على طه حسين، واتهموه بالكفر، وصادروا كتابه، وعملوا على طرده من الجامعة، وتقديمه للمحاكمة، وآذوه في مشاعره، أقول إذا كانت (الأيام) الشهيرة تفجر الدافع إلى كتابتها في سياق أزمة حادة، فإن كتاب أحمد أمين (1886-1954) (حياتي) جاء في سياق مشابه رغم اختلاف التفاصيل والتوجهات.
وكان طه حسين (1889-1973) في السابعة والثلاثين من عمره حين عانى الأزمة الحادة التي ترتبت على كتابه (في الشعر الجاهلي)، أما أحمد أمين فكان في الثامنة والستين من عمره حين قرر أن يكتب حياته، وأن يستعيدها متأملا مغزى الرحلة ومعناها، فضلا عن إنجازاتها التي لم تتحقق بسهولة، بل بالصبر على المكاره والإصرار على المواجهة.
ومن هذه الأحداث التي عاناها أحمد أمين انفضاض الكثيرين من حوله بعد أن لم يعد له منصب ينفع أو يضر، والتدهور الحادّ في عينيه اللتين ظلتا نافذته على عوالم المعرفة اللانهائية التي عشقها، والجلطة التي أسلمته إلى شلل نصفي. وكلها أحداث تترك الذات في مواجهة النهاية التي لا تقاومها إلا بالكتابة، التي تمنح الحياة معنى.
وليس من الغريب أن يفرغ أحمد أمين من صياغة (حياتي) قبل وفاته بأربع سنوات.مؤكد أن دافع كتابة السيرة الذاتية في حال أحمد أمين يختلف عن دافع الكتابة في حال طه حسين، وهو اختلاف راجع إلى التباين الحاد بين الشخصيتين اللتين تقاربتا كل القرب لسنوات طويلة، وتباعدتا كل البعد لسنوات غير قليلة، فالطبيعة العقلانية الهادئة لشخصية أحمد أمين تخالف الطبيعة الصدامية المقتحمة لشخصية طه حسين.
ولذلك كانت حياة طه حسين عاصفة متصلة، لا تهدأ إلا لتندفع من جديد مثيرة حولها غبار الطلع وزوابع الرفض وفيضا من الأسئلة التي لا نهاية لها.
ومن الممكن تقسيم حياة طه حسين بلحظات هبوب العاصفة المتصلة التي تجسدت فيه، سواء في صدامه مع مشايخ الأزهر الذين حرموه من العالمية، التي كانت أولى درجات الدكتوراه التي تمنحها الجامعة المصرية سنة 1914، حين كتب عن (تجديد ذكرى أبي العلاء) . وهو الأمر نفسه الذي فعله سنة 1926 عندما قلب الحياة الفكرية والجامعية رأسا على عقب بكتاب (في الشعر الجاهلي).
وفي مطلع الخمسينيات حين تجسّد فيه وزيرا حلم (الوفد) العام وحلمه الخاص بأن يكون التعليم والثقافة كالماء والهواء حقا لكل مواطن.
ومن المؤكد أن شخصية طه حسين الحدّية النارية المندفعة ظلّت على النقيض من شخصية صديقه أحمد أمين، الذي ولد قبله بثلاث سنوات وتوفي قبله بتسع عشرة سنة.
وأتصور أن ما جمع بينهما في صداقة عميقة طويلة هو رغبة مشتركة في أن يكمل كل نظير نظيره، عقلانية أحمد أمين الهادئة وحدّية طه حسين العاصفة.
وأتصور أن طبيعة أحمد أمين الهادئة المثابرة أتاحت له من الصبر ما أكمل به ما بدأه مع صديقيه طه حسين وعبدالحميد العبادي من مشروع التأريخ للحضارة العربية في جوانبها المختلفة.
وقد اتفق الثلاثة على أن يتولى طه حسين التأريخ للحياة الأدبية في مسيرة الحضارة العربية، والعبادي الحياة السياسية، وأحمد أمين الحياة الفكرية، ولم يكمل طه حسين وعبدالحميد العبادي ما وعدا به، ومضى أحمد أمين وحده، حاملا عبء إنجاز ما حلم به الثلاثة، فأنجز كتابه العلامة في تاريخ الثقافة العربية. أعني ثلاثيته الرائعة التي بدأت بكتاب (فجر الإسلام) في جزء واحد، وانتقلت إلى (ضحى الإسلام) بأجزائه الثلاثة ثم (ظهر الإسلام) بأجزائه الأربعة، وما كان يمكن إنجاز هذا الكتاب - الموسوعة إلا بصبر طويل، وتفرغ كامل لسنوات، وحياة هادئة منظمة، حياة لا تعرف الانفلاتات الديونسية، ولا تقلبات التمرّد الحديّة، بل تعرف الوضوح الأبوللوني الشمسي بنظامه الساطع، وتحدده القاطع، وتتابعه الذي لا يعرف الملل، كما تعرف العقل الذي يحب النظام حبّا شديدا، حيث كل شيء في موضعه وكل شيء في وقته.
2004*
* ناقد وأكاديمي مصري «1944 - 2021».