في هذا المقال سنرد على المسألة الآنفة الذكر من أجل توضيح أي من الطبقات الاجتماعية لها مصالح مادية بأن تكون هوية الدولة علمانية.
العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، وهذا يترجم إلى فصل الدين أيضا عن التربية والتعليم، وأن يكون الدين شأنا أو أمرا شخصيا، أي بعبارة أخرى ألا تمول الدولة المؤسسة الدينية مثلما يحدث اليوم عندنا، حيث يخصص ما يعادل ملياري دولار إلى الوقفين الشيعي والسني من الموازنة السنوية، في حين تتحجج الحكومة بأن ليست لديها أموال بسبب انخفاض أسعار النفط، وأن الشعب العراقي تعود على عدم دفع فاتورة الخدمات مثل الكهرباء والماء، كما جاء في الورقة البيضاء بشكل وقح وسافر، لتبرير تخفيضها العملة المحلية، والعمل على تنصل الدولة من مسؤولياتها تجاه المجتمع، وبيع المصانع والمعامل الحكومية برخص التراب إلى الشريحة الجديدة من البرجوازية، التي ارتفعت إلى مصاف الطبقة البرجوازية بفعل عمليات النهب والسلب والسرقة والفساد، مستفيدة من الدواوينية التي منحتها لهم العملية السياسية. لنعود إلى موضوعنا، ولنميز بين الدين كعقيدة يؤمن بها عدد من الناس، وبغض النظر أي كان ذلك الدين، وبين الدين كأيديولوجية.
العلمانية كانت ضرورة، وحاجة حياتية بالنسبة للطبقة البرجوازية الصاعدة في الغرب خلال صراعها مع الإقطاع المتحالف والمتداخل مع الكنيسة، وكانت يد الكنيسة في القمع الفكري والسياسي والاجتماعي تجاه الحريات وحقوق الإنسان، بالمعنى المطلق لم تكن أقصر من يد «طالبان» وولاية الفقيه والسلطة الإسلامية في العراق مثلما نراه اليوم إلا بدرجات وحشيتها. وكانت الطبقة البرجوازية الصاعدة في أوروبا بحاجة الى إقصاء الكنيسة وأيديولوجيتها المسيحية من حياة المجتمع، كي تجرد الإقطاع من سلاحه الفكري والاجتماعي، لفتح الطريق نحو نموها الاقتصادي، وتأمين حماية مصالحها المادية المتناقضة مع الطبقة الإقطاعية والنبلاء وشبكة الكنهوتيين. وقد ارتبط التطور العلمي والتكنولوجي بحاجة البرجوازية المادية وتطورها وقدرتها على التنافس، والمتناقضة كليا مع كل أفكار الكنيسة، المحافظة والرجعية، والتي ذهب ضحيتها كل من يفكر خارج صندوقها، أو يفكر بطريقة علمية، ويشكك في كل المعتقدات التي رسختها الكنيسة طيلة قرون من حكمها.
وقد جاء، على سبيل المثال لا الحصر، تثبيت حرية الإلحاد في الدستور الفرنسي بعد الثورة الفرنسية في 1789 كرد بشكل نهائي على إقصاء المسيحية كأيديولوجية وعقيدة ملزمة على المجتمع من الدولة، وتجريد الأخيرة من أية صلاحية قانونية وسياسية في فرضها.
وهنا يطرح السؤال التالي: هل العلمانية اليوم حاجة وضرورة مادية وحياتية بالنسبة للطبقة البرجوازية في العراق؟.
قبل كل شيء نريد توضيح مسألة مهمة، وهي أن البرجوازية التي ناضلت ضد الدين في الغرب، وتوج ذلك النضال بإقصاء الدين عن حياة المجتمع، أصبحت رجعية بدفاعها عن الدين، وإعادة تأهيله من جديد، فبعد أن أصبحت هي السلطة المهيمنة، وتمسك زمام الأمور في كل المعمورة، وفي صراعها مع بقية الأجنحة المتنافسة معها، راحت تجدد هويتها المسيحية في مواجهة الإسلام السياسي أو توجد مبررات لحرمان اللاجئين والمهاجرين من حقوقهم في السكن والإقامة في بلدانها بحجة التهديدات الأمنية، ووصم جباههم بالإرهاب الإسلامي، لأنهم نزحوا أو هربوا من بلدان وصفت بـ«غالبيتها المسلمة».
في حين أن الأنظمة السياسية الغربية هي من حولت بلدان أولئك المهاجرين إلى جحيم لا يطاق عبر سياستها الجهنمية مثلما حدث في سورية والعراق وليبيا وإيران، ودول أمريكا الجنوبية وأفريقيا، والقائمة تطول.
وكانت تصريحات مثل الرئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، بالحفاظ على هوية أوروبا المسيحية في مواجهة أزمة المهاجرين واللاجئين، للحيلولة دون وصولهم إلى البلدان الأوروبية، أو الكلمة الشهيرة لجورج بوش (الابن) بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 بأن حربه ضد الإرهاب الإسلامي هي حرب مقدسة، بل هي حرب صليبية، هي أمثلة على إعادة الوهج للدين في صراعها السياسي.
هذا ناهيك على تقوية الجماعات الإرهابية الإسلامية، وتقوية الدين بجميع مؤسساته في الشرق، وتقديم كل أشكال الدعم له منذ الحرب الباردة حتى يومنا هذا.
كان الغرب يعقد الصفقات السياسية والاقتصادية مع حكوماتها، ناهيك عن الدعم العظيم الذي قدمته إدارة أوباما لصعود الإخوان المسلمين إلى دفة السلطة في دول شمال أفريقيا كتكتيك سياسي للالتفاف على الثورة المصرية والتونسية. لم تكن البرجوازية الغربية تبالي، لا من قريب ولا من بعيد، بدعم القوى العلمانية، ولم تدع يوما أو تضع على أجندتها دعم الحركات النسوية والقوى والشخصيات العلمانية، التي ناشدت وناضلت من أجل فصل الدين عن الدولة والتربية والتعليم، والحد من تطاولات المؤسسة الدينية، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان في الشرق، ما دامت مصالحها الاقتصادية والسياسية مؤمنة مع تلك البلدان. فإذا كان هذا حال البرجوازية في الغرب، فماذا سيكون في العراق، الذي دعم الغرب بأنظمته الليبرالية والديمقراطية التقسيم الطائفي والديني والقومي في المجتمع العراقي، وفتحت البالوعات للصراصير الطائفية من كل حدب وصوب، لتنتج مرة الحرب الأهلية فى 2006، وأخرى غزو عصابات «داعش» ثلث مساحة العراق. وبين هذا وذاك، سعى الغرب، كما قلنا، في مناسبات عديدة إلى فتح منابر الجوامع والمساجد في بلدانه، لتعبئة الشباب «المسلم»، وتجنيدهم للالتحاق بالجماعات الإسلامية الإرهابية مثل «جبهة النصرة» و«داعش» في سورية عبر أجهزة مخابراته، ليعيد سيناريو أفغانستان نفسه في أثناء غزوها من قِبل السوفييت في 1979.
إن أكثر التصريحات التي تثير سخرية واستهجان من قِبل الأنظمة الغربية، خاصة من قِبل الذين غزوا العراق، بأن أمريكا لا تتدخل في الشأن الداخلي العراقي، وأن الدستور ذا الديباجة الطائفية كتب بأيادٍ عراقية، وهي تدعم سيادة العراق، وعدم التدخل في شؤونه، إلا أن الساسة الأمريكان، والدمى التي جاءت تحت حراب المارينز الأمريكي، لم يقولوا لنا من احتل العراق، ودمر كل شيء فيه، ونفخ الروح في الديناصورات التي تم جلبها من كهوف ما قبل العصر الجليدي الأول.
بيد أن الحقيقة عندما تصل المسألة إلى حقوق الإنسان بالمعنى الحقيقي والمطلق، فالغرب لا يتدخل في شؤون العراق، ويحترم تقاليده و«قيمه المجتمعية»، أليس هذا ضربا من النفاق بحرفية عالية!.
إن الدين كأيديولوجية لا يمكن الاستغناء عنه في حرب البرجوازية عبر تعبئة المجتمع، وتعمية الطبقة العاملة وعموم الكادحين، للحفاظ على سلطتها ونفوذها السياسي، وهذا ما لا يعيه ولا يدركه لفيف المثقفين الليبراليين وتجمعاتهم العديدة، الذين يعزون سبب عدم فصل الدين عن الدولة أو إقرار دستور علماني إلى نوازع أخلاقية عند ذلك الحزب أو تلك الفئة، فالمصالح الطبقية التي وراء إقرار الهويات تختفي كليا في تحليلاتهم، التي تقودهم دائما إلى الوقوع في فخ الإحباط واليأس. وإذا تحدثنا بكلمات أكثر وضوحا، فلا يمكن للطبقة البرجوازية الحاكمة في العراق بسلطتها الإسلامية الاستغناء عن الدين، فـ«الظلم الطائفي» الذي يمارس من قِبل الإسلام السياسي الشيعي، وميليشياته المتمثلة في «الحشد الشعبي»، يعني الاستيلاء على الأراضي والممتلكات والثروات الطبيعية في المناطق الغربية.
أما «الظلم الجنسي» الواقع على النساء بالنسبة لتلك الطبقة، فيعني من الناحية الحقوقية معاملة نصف المجتمع، إذا لم نقل أكثر منه، كمواطنين من الدرجة الثانية.
وعلى الصعيد تحقيق المصالح الطبقية، يعني إضافة جيش جديد إلى الطبقة العاملة، سواء إلى جيش العاطلين عن العمل، مما يسهم بشكل كبير في تخفيض قيمة قوة العمل، ويزيد من حجم المنافسة بين العمال، وبالتالي تدفع للنساء أجورا أقل من الرجال، لتكون أكثر أقسام الطبقة العاملة فقرا وعوزا، أو الاستحواذ على القيمة المجانية للعمل المنزلي غير مدفوع الأجر. كما أن البنية السياسية التي بنيت عليها سلطة الطبقة البرجوازية هي «المحاصصة السياسية»، وتعني تحت عنوان «الأغلبية الشيعية» الاستحواذ على المؤسسات الحكومية التي تدر أموالا بمليارات الدولارات من خلال صفقات الفساد وعمليات النهب والسلب.
هذا، بالإضافة إلى ما أشرنا إليه بالتفصيل في مقالنا السابق «أزمة الهوية والصراع عليها.. حزب الدعوة ومقتدى الصدر نموذجا»، تركيبة السلطة السياسية في العراق، فهي سلطة ميليشياته، وهي أقرب إلى المافيا من أن تأخذ شكل حكومة، تحاول تسويق نفسها بأنها تمثل جميع الطبقات والفئات الاجتماعية في المجتمع، وتسهم هذه النقطة في الاقتتال، والدفاع عن الدين والطائفة، والتمسك بهما، لأنها، أي السلطة الميليشياتية للإسلام السياسي، لا تملك غيره لتقديمه إلى المجتمع، فدون الدين، ورفع رايات طائفية، فلا يمكن استمرارها في السلطة.
وبالتحليل النهائي، ليست الطبقة البرجوازية الحاكمة بجميع أجنحتها في العراق مستعدة، لا اليوم ولا الغد ولا حتى على المدى المنظور، أن تحدث تغييرات لمصلحة تقويض الدين على الأقل، وتقوية جذور المدنية والعلمانية في المجتمع، وتأسيس دولة أساسها المواطنة والمساواة الدينية والطائفية والجنسية، فالعلمانية ليست حاجة ولا ضرورة بالنسبة للطبقة البرجوازية الحاكمة في العراق.
أما بالنسبة للطبقة العاملة، فالعلمانية فهي حاجة حياتية وطبقية، فهي تسحب البساط من تحت أقدام الطبقة البرجوازية وميليشياتها في «دق أسفين» بين العمال على أساس الطائفة والدين.
وإذا شحذنا الذاكرة قليلا، وعدنا إلى التفجيرات الإرهابية التي كانت تضرب المدن منذ بداية احتلال العراق، نجد أن أغلب المناطق المستهدفة هي مساطر العمال وأماكن عملهم، وكان الهدف هو نقل الصراع الطائفي إلى الوعي الاجتماعي، وإحداث شرخ كبير فيه.
علاوة على ذلك، فإن تسويق الوهم الطائفي وترهات الدين بين صفوف العمال من شأنه طمس الصراع الطبقي، وتحريف نضالهم ضد الطبقة البرجوازية التي يجتمع ممثلوها السياسيون تحت سقف سمي «البرلمان»، من الحلبوسي والخنجر السني والمالكي والعامري والخزعلي الشيعي، كي يصدروا قوانين تمنحهم الحصانة الدبلوماسية، ورواتب وامتيازات تصل إلى 10 ملايين دينار شهريا لكل عضو برلمان، ووزير من وزرائهم، ومنحهم قصورا فارهة، بينما يحصى العمال قتلاهم بعد التفجيرات، والمحظوظ منهم يحصل على فتات من موائدهم، كي يبقوا على قيد الحياة ليوم آخر، في حين أن كل الخيرات التي ينهبها هؤلاء اللصوص هو من عرق العمال ونتاجهم.
من الوهم انتظار البرجوازية أن تمد يدها إلى العلمانية، ومن الوهم أن تمنع البرجوازية نفسها في كل محطة تمر بها من طلب العون من الدين ورجالاته، الذين يعيشون على بيع الخرافات والخزعبلات والأوهام والنفاق إلى الناس في كل محنة تمر بها البلاد، ويدفع لهم من الموازنة السنوية للدولة، في حين تتحجج الحكومة بأن ليست لديها أموال كي تدفع كضمان بطالة إلى الملايين من العاطلين عن العمل.
ألم يقل لنا الإنسان البسيط في تظاهرات تموز 2011 «من دخل بيها أبو العمامة.. صار البوك للهامة»، أي وصلت السرقة إلى قمة الرأس عندما دخل بها رجل الدين المعمم، ليكون أحد الشعارات المركزية في كل التظاهرات.
إن تسميم أدمغة الأحياء في العراق بالترهات الطائفية والدينية هي سياسة ممنهجة، ومخطط لها من قِبل قوى الإسلام السياسي في حربها القذرة والدنيئة من أجل الاستحواذ على أكثر ما يمكن من السلطة والامتيازات والأموال.
إنها سياسة لتكبيل ذهنية العامل بالدرجة الأولى بمنظومة من الأكاذيب والأوهام اللاإنسانية، لحرف نضاله ضد العدو الطبقي الواحد. فعلى سبيل المثال، شركة «بي. بي.» البريطانية أو «شل» الهولندية أو «إكسون موبيل» الأمريكية أو «بتروجاينا» الصينية أو «لوك أويل» الروسية ليسوا أنصار الطائفة الشيعية أو الطائفة السنية، أو الناطقين العربية أو الكردية، ولا هم أصدقاء أصحاب الكتاب المقدس، إلا أنهم، وعن طريق شركة «نفط الجنوب» و«نفط الشمال»، يمارسون أبشع أنواع الاستغلال والسرقة والنهب.
وعليه، إن الطبقة العاملة بحاجة إلى إقرار دستور علماني.. بحاجة أن تكون هوية الدولة العلمانية، فلديها مصلحة طبقية في ذلك، كما أشرنا.