فأنا من الجيل الذي كان ينتظر صدور جريدة «الوطن» كل صباح على أحرّ من الجمر، وفي اليوم الذي يكتب فيه حمزة المزيني يزداد جمر الانتظار؛ لما تحويه مقالاته من مادة مشتعلة جاذبة للقارئ ومادة رصينة مختلفة تدل على عمق مُتقنها وشجاعة مُحررها.
ومما يحسب لحمزة المزيني من (وجهة نظري) بعد أن (ركد الرمي) بين التيارات المتشابكة، وقامت الدولة بدورها على أكمل وجه في تجفيف منابع التشدد ومحاربة الفكر المتطرف، أنه خرج من المعركة بسيفه خروج المنتصر وتركها لمن لم يستطع الخروج منها ولمن ركب الموجة.
نعم.. خرج منتصرًا وتفرغ لما هو أهم.
قبل فترة غرد بمقال عنوانه (منيع الله)، سبق أن نشره في جريد «الشرق» (الجريدة التي -يا للأسف - فقدنا أرشيفها، فكل روابط موادها لم تعد تعمل!!)
يتحدث في مقاله هذا عن رجل كريم كان يسوق (قلابا) لنقل الرمل وكان يسمح بالركوب معه هو وأخيه «خلف»، وشدني ما كتبه بسرده الممتع عن مرحلة طفولته لدرجة أعدت قراءة المقال أكثر من مرة، وتكررت هذه المتعة وهذه القراءة المتكررة مع مقالٍ غرد به أيضًا عنوانه: (نبذة عن معالم وادي العقيق في المدينة المنورة)، فتسألت بيني وبين نفسي، لماذا لا يكتب هذا الجهبذ صاحب هذه الذاكرة القوية وهذا السرد الممتع سيرته الذاتية!؟
وبدلًا من إرسال رسالة -على الخاص - للدكتور «حمزة» أردت أن يشاركني أصدقائي في هذه المطالبة، فأنشأت على طريقة قوم تويتر (وسما/ هاشتاق) بمساعدة أحد الأصدقاء، وهذا أول (هاشتاق) ينطلق من حسابي نطالب فيه الدكتور «حمزة المزيني» بكتابة سيرته الذاتية، فبدأت التغاريد تهطل من عدد كبير من المثقفين والأكاديميين الذين يعرفون من هو «حمزة المزيني»، ومنهم على سبيل المثال (محمد المحمود، د. يحيى الظلمي. علي فايع، د. عزة الغامدي، د. صالح معيض الغامدي، عبدالله المقرن، ظافر القرني)، وبعد هذا التفاعل الكبير غرد البروفيسور «حمزة» في هذا الوسم بهذه التغريدة:
«شكرًا جزيلًا للأعزاء الذين غمروني بسخائهم الذي يشهد بنبلهم ونقائهم.
تثار دائما قضية تأجيل الثناء على الشخص إلى ما بعد وفاته!
أما أنتم فأثنيتم بما لا يستحقه إلا ميت عظيم!
لقد أثبتم عدم صحة مقولة تأجيل الثناء إلى ما بعد الموت، فشكرًا!.».
حقيقة لا أدري هل بدأ حمزة المزيني في كتابة سيرته الذاتية بعد هذه «المطالبة التويترية» أم سبقها؛ ولكن الذي يبدو لي من هذه السيرة البديعة، -والتي تجاوزت 550 صفحة - أنه سبق هذه المطالبة بسنوات!.
لم أسأله مع أنني زرته في منزله بعد صدور السيرة، وحصلت عليها من يده الكريمة، ودار حديث قصير بيننا حولها وكشف لي سرا من أسرارها، وليسمح لي بكشفه لكم، وهو أن عنوانها «واستقرت بها النوى» الذي اختاره وحظي بإعجاب الشعراء والأدباء، برق في ذهنه وهو يتهيأ للنوم، فاتصل مباشرة بـ«حسين بافقيه» -الذي اطلع على مسودة السيرة - يستشيره في هذا العنوان فأعجبه واعتمده!!
تخيلوا البروفيسور حمزة المزيني الذي قضى عمره بين القلم والورق وبين عوالم الكتب وعرف بقدرته الفائقة على التعبير الناصع وبأناقة الأسلوب (يستشير) في عنوان!.
حقيقة لا أجرؤ على قراءة السيرة قراءة نقدية ولا تقيمها من الزاوية الفنية، لأن هناك من هو أولى مني بالحديث عن هذا الجانب من المختصين، ولكن من وجهة نظري - بصفتي قارئًا هاويًا - هي أجمل سيرة ذاتية (سعودية) بعد سيرة عزيز ضياء «حياتي مع الجوع والحب والحرب».
هذه السيرة وثّقت وبأسلوب بديع سيرة جيل بأكمله، وأيقظت في ذلك الجيل -جيل (د. مزروق بن تنباك، ود. عائض الردادي، ود. عبدالرزاق الصاعدي)- الشجن والحنين الى الأطلال ولذة الكفاح، ونقلت لجيل (فارس ومشاعر وشذى وميادة وشهد) ولمن يقرأ من الجيل الحاضر، صورا مختلفة من الحياة «الشاقة والجميلة» التي عاشها ذلك الجيل وعاشها البروفيسور العصامي في طفولته، وفي مراحل عمره المختلفة.
في بداية السيرة وبلغة قريبة من الشعر استطاع الدكتور حمزة وبتصويرٍ جميل أن ينقل للقارئ مشاهد من «البيت القديم» الذي تهب عليه نسمات المزارع المحيطة به في ليالي الصيف الممتعة، وكأنني وأنا غارق بين الكلمات ومنهمك في هذا السرد الماتع أشاهد ذلك الطفل الذي ينام فوق السطح ويعدّ النجوم التي تملأ السماء، ثمّ يستيقظ راتعا تحت سعف النخيل، يصطاد الطيور التي تغرد في ظلال العنب وفوق أشجار الليمون، بل كأني أسمع «النغري» الطير الصيفي الذي يأكل من الرطب ويغني.. وأسمع أيضًا تلك السيدة الفاضلة التي تبيع النعناع وهي تغني هذه «الأهزوجة» ناصحة ابنها الذي التزم بنصيحتها وصعد بكفاحها وكفاحه «عالي المشراف»:
«ليا بغيت الصيد سَرّح بدري
لا تصبح ألا عالي المِشْرافي»
في هذه السيرة المملوءة بالمواقف وبالذكريات وبقصص الكفاح والنجاح حضرت الأسماء من (غيث بن فرج الحجيلي إلى تشومسكي) وحضرت الأماكن (من البريقا إلى الصين) وحضرت المتعة من (الغلاف إلى الغلاف)..
في قراءة قصيرة ورائعة لهذه السيرة تقول الدكتورة منى المديهش:
«أول ما يلفت النظر في هذه السيرة؛ هي تلك اللغة السردية الشفيفة الآسرة التي صيغت بها، والتي جعلتني أعجب كيف استطاع أستاذ لسانيات قضى وقته في دراسة اللغة أن ينجو من الاستعراض اللغوي، وكيف له وقد طوّع اللغة لهذا القدر من اللين ألا يقع في الترهل الأسلوبي أو ركاكة التعبير!».
هذا «العمل المتقن» الذي بدأ الدكتور حمزة يجني صداه الجميل من عدد كبير ممن اطلع عليه، ليس غريبًا على من اشتهر بالدقة والإتقان والجدية والإبداع على مدى تاريخه الأكاديمي والثقافي.
وسأكتفي هنا بشهادتين عن «ترجماته»، الشهادة الأولى من الدكتور اللساني «يحيى الظلميّ»، الذي قال: «ترجمات الدكتور حمزة أعانت كثيرًا من طلاب الدراسات العليا، بل حتى بعض من يخالفونه المنهج، فلم يكن لهم وصول للمحتوى اللساني الهائل إلا عبر منفذ الكتب والمقالات التي ترجمها لهم سواء أقرّوه أو أسرّوه».
والشهادة الثانية من الناقد الألمعي والمتخصص في اللغة الدكتور «سامي العجلان» الذي قال: «تدقيق الدكتور حمزة المزيني في ترجماته لافت للنظر، والجهد الكبير الذي يبذله في تحرير الترجمة وفي خدمة النص المترجٓم بالحواشي التفسيرية والأشكال التوضيحية والإحالات العلمية الغزيرة، مع حسن الاختيار للمؤلفات التي يترجمها.. كلّ هذا مُقدّر ومُلهِم..
فإذا أضفتٓ إلى هذا قدرته الفائقة على التعبير الناصع عن الفكرة مهما دقّت، مع أناقة الأسلوب ونُدرة الأخطاء اللغوية أدركتٓ أن أمامك نموذجًا وطنيًا وعربيًا مشرفًا يُحتذى به بين الباحثين والمترجمين العرب»..
أخيرًا:
من منكم يعرف أن هذا اللسانيّ وهذا اللغوي الذي لا يتساهل مع الأخطاء النحوية والإملائية ويسخر ممن يقع فيها!!، له «ميول شعبية» ويتقن فن الكسرة و«المبادع» (الاسم الذي يفضله حمزة، وهو الاسم الأصلي لما يعرف الآن بالمحاورة) يقول في «ملعبة ألكترونية» لا ينقصها إلا الصفوف القديمة وذلك الجيل المتذوق لهذا الفن ومعانيه.. موجهًا البيت للمبدع محمد السحيمي بعد مقال كتبه:
«يا محمد ما يزيد البشت للرجال قيمه
كان ربي ما عطاه من العلوم الكاملاتي
بعضهم لو لبّسوه البشت يشبه للبهيمة
وأما أنا وياك تكفينا العلوم الغانماتي».
ولما لمحت البيت في «تويتر» سبقت صديقي محمد بهذا الرد:
«(فرد حمزة) ثار يا محمد وبعطيه (الخصيمه):
مال حمزة يا محمد غير( قصف الطايراتي)
دام جدك يالمزيني مثل جدي له قديمه:
اتركوا بشت (الهياط) ودوروا بشت (الغناتي)»
شهادة لله أن «البروفيسور حمزة المزيني» والمبدع الجميل «محمد السحيمي» من أهل «العلوم الغانمة» وتزهاهم «البشوت الفاخرة وصدارة المحافل». وسلامتكم.