شهدت أسعار الغاز الطبيعي والبتروكيماويات والمغذيات الزراعية بعض التحركات الحادة في الأيام القليلة الماضية، ومن المرجح أن تشهد تقلباً إضافياً في الفترة التي تسبق موسم العطلات في أمريكا وأوروبا، حيث بدا شهر ديسمبر حتى الآن أكثر دفئاً مما كان متوقعاً وقد أدى هذا لاستمرارية الأسعار دون 4 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية.

وعلى الرغم من مخالفة التوقعات بشأن شتاء هذا العام، فإن حالة عدم اليقين لشهري يناير وفبراير القادمين تنذر بارتفاعات في أسعار الغاز باعتبار تقرير منظمة الطاقة الدولية الأخير بشأن احتمالية انخفاض مخزونات الغاز في تلك الفترة وهو ما يعني خفض الإمدادات لتعود لنفس مستويات شهر سبتمبر الماضي عندها سيكون قطاع البتروكيماويات أول الرابحين.

يأتي هذا في حين تتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن يصل إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية من الغاز الطبيعي إلى مستويات قياسية في بداية العام الجديد، وهو ما يعني إمكانية تغطية أي نقص في الإمدادات لأوروبا. لكن المشكلة تكمن في أن فرص تصدير الغاز الأمريكي إلى أوروبا تواجه بشراسة من قبل أعضاء الكونغرس لإعطاء أولوية للاستخدام والمخزون الداخلي، وأيضاً باحتمالية ارتفاع الاستهلاك، حيث إن الاستهلاك المحلي الأمريكي في طريقة للزيادة ليتجاوز حجم الإنتاج في حال عاد الطقس إلى وضعه العام الماضي. من المفترض أن يكون الطلب على الغاز الأمريكي قد وصل بنهاية هذا الأسبوع إلى أكثر من 118 مليار قدم مكعب ارتفاعاً من 109 مليارات قدم مكعب في الأسبوع الثاني من ديسمبر، وهو ما يدل على التحرك التصاعدي للاستهلاك في أمريكا.


كل هذه الأرقام تعطينا انطباعا منطقيا ومتكررا عن حاجة العالم الدائمة والموسمية للغاز الطبيعي لإنتاج الطاقة المتعلقة بالتدفئة والكهرباء لأسباب أهمها عدم وجود البديل الملائم اقتصادياً وبيئياً، فالغاز يعتبر أقل المصادر الأحفورية بعثاً للكربون وغازات الدفيئة والأسهلها تخزيناً ونقلاً.

في الشرق الأوسط تختلف القصة تماماً، حيث تبرز كثير من المميزات الطبيعية بشأن اعتدال مستويات الشتاء وانخفاض الحاجة للغاز والكهرباء للتدفئة نسبياً مع وفرة الغازالطبيعي في دول الخليج العربي وليبيا ومصر. وخلال عشر سنوات سوف تواجه أوروبا والصين مشكلة في إمدادات الغاز في حين تتشكل قوة أمريكية كبيرة في إنتاج وتصدير الغاز الطبيعي، فأمريكا نفسها ستكون أكبر دول العالم خلال سنوات قليلة في إنتاج الغاز الطبيعي على أن تحتل المملكة العربية السعودية ثالثاً أو رابعاً بعد روسيا وقطر في عام 2030 في حين ستكون أمريكا نفسها والصين أكبر المستهلكين، أما السعودية فستعود للاكتفاء المحلي بحسب المعطيات الحالية.

في واقع الأمر، يواجه العالم حقيقتين أساسيتين هما التسارع في خفض استخدامات الفحم الحجري وزيادة استبداله بالغاز الطبيعي، والتسارع في زيادة الطلب على الطاقة. أما شكل السعودية فسيكون تخصيص إنتاج الغاز الطبيعي لغرض الاستخدام المحلي في مجال إنتاج الكهرباء والمواد البتروكيماوية على أن تتولى الطاقة النظيفة والمتجددة نصف إنتاج الطاقة الكهربائية بما يصل إلى 60 جيجا واط تقريباً.

أما بعد 2030، فستكون السعودية ودول الخليج العربي بحاجة ماسة إلى المزيد من الغاز في ظل النمو السكاني وانخفاض معدلات المخزونات الطبيعية منه، حيث سيكون عام 2045 هو عام التحول. نحن نقف الآن أمام احتمالات أكثرها تفاؤلاً هو إمكانية الاعتماد كلياً على إنتاج الطاقة من الرياح والشمس والتحليل الكهربائي لمياه البحر وهو احتمال صعب نسبياً. أما الآخر الأقرب منطقية، فهو أن تتحول الدول الخليجية إلى تقنيات الابتكار في تخزين الطاقة مستفيدة من التجربة الصينية في البطاريات الضخمة، حيث تمثل الصين أكبر خازن للكهرباء باستخدام البطاريات الضخمة. ومقارنة بالصين يمكن لدول الخليج العربي التي سيبلغ سكانها حوالى 60 مليون نسمة في 2045 أن تخزن احتياجها من الكهرباء في الصيف في البطاريات على أن تصل لاستخدام فاقد الغاز الطبيعي كطاقة كهربائية، على أن يتم ضبط الاستهلاك الصناعي واللوجيستي، وهو مجال الابتكار الذي انطلقت به «أرامكو»، مؤخراً، من خلال معملها في ينبع لتجزئة الغاز الطبيعي والذي استخدم فواقد غاز الإيثان كوقود لمراجل إنتاج البخار ما خفَض من استخدام الطاقة والكلفة التشغيلية والانبعاثات وزاد من كفاءة استخدام الغاز الطبيعي في الصناعة.

في الحقيقة هذا الابتكار رغم محدودية تطبيقة الصناعي فإنه يفتح المجال أمام كل المستهلكين الرئيسيين للغاز للبناء عليه كوننا بحاجة ملحة للابتكار في مجال خفض استهلاك الغاز الطبيعي واستخدام وقود النفط وتنويع مصادر الطاقة.

حالياً، يبقى التساؤل المهم، ماذا بعد حقل الجافورة؟