سأنطلقُ في مقالي من مفارقةِ بيتٍ في قصيدةٍ لنزار قبَّاني يحاور فيها طه حسين:

«ارم نظارتيك ما أنتَ أعمى/‏ إنما نحن جوقة العميان». والمفارقة هي أنَّ القباني يريد أن يتحرر من الأبوية، بالأبوية نفسها.

هذه المفارقة تشرح بعضًا من مُشكلات التفكير، حول ثنائية التخلف/‏التقدم، إذ حين نتأمل تاريخ نزار نجده يقوم على ثيمة (البحث عن البطولة=قتلناك يا آخر الأنبياء)، وحتى تلك الغزليات أقامها على التخيلات الفحولية. ومن هنا جاء بيتُ نزار في وصف طه حسين، أي النزوع للبحث عن أبوية تُعَوِّض الأبوية التي يهرب منها. أما بيان ذلك فإنَّ الثقافة الباحثة عن البطولة الفردية تُغَيّب من وعيها المرحلةَ النقدية، التي هي ضرورية لنضج الأدوات وتَشَكُّل ظروف التقدم المعرفي. فتمجيد طه حسين كرائد -بلا مفاهيم مؤسساتية- لسهام العقلانية، لا تختلف عن تمجيد سعد بن أبي وقاص كرائد -بلا سلطة وخطاب- لسهام الحروب. ومن علامات أنَّ البيئة الثقافية -بغياب الفاعل النقدي- تُنتج آباء ضدا لآباء، أنَّ اللقاء الشهير لطه حسين -مع مفكرين بارزين، تحت إدارة ليلى رستم- كان محاطا برهبة الأبوية، لها بريقُ حلقةِ شيخٍ مع مريديه، ومن المفارقات أن يكون أحد صراع أنصار طه، وخصومه في مصر حول: هل طه حسين صانع الإقطاع الفكري، أم هو فرد خارق متجاوز للإقطاع وللبرجوازية في آنٍ واحد؟، أي أنَّ من تيَامَن عن طه وَمن تياسر لم يستطع الخروج من عنق التركيز على فردانية الحدث دون النظر لتشكلات اللاوعي في الخطاب المؤسسي. ومن هنا كان البحث عن أفرادٍ مُخَلِّصِين هو استعادة لمفهوم الإسناد الديني، ذلك الذي ينتظر نزول المعنى من مكان مجهول/‏معدوم. وحين يذكر أنصار طه -مثلا- أنه قضى على (العنعنة) التي صُبغت بها الثقافة العربية، فإنها ردة فعلٍ لصناعة أبوية مناقضة لأبوية المتدينين!، أي أنَّ الارتكاز على ذاتية طه حسين، يقوم على انتقاء ماضٍ (مُعنعن) في مقابل انتقاء ماضٍ (معنعن) لمتدينين. والعنعنة أصل في منظومة تفكيرنا. لكن يجدر بنا التمييز بين الذاتية في الميتافيزيقا، والذات الدينية، لنُقِرَّ فرقًا بين العَنْعَنَتيْن، ولعلّ قول ابن المبارك: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقالَ من شاء ما شاء» يُبين الفرقَ، أي أنَّ عنعنةَ الدين هي ذاتية مصدرها إرث مجهول المصدر، إلا عند مَن يؤمن بوجود عملية أطرافها: (إله-رسالة-مَلَك-نبي- أمة) ومن ثمَّ فإنَّ الإسنادَ -هنا- مُثبِّط لإبداع الذات الميتافيزيقية، تلك التي قال عنها ريتشارد رورتي: «هي لعبة بلا قواعد، فيستطيع مَن شاء أن يقول ما يشاء، دون حسيب». ومن هنا وجدنا ابنَ رشد يرتبك وهو يكتب (فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من اتصال) ومصدر ارتباكه أنه قَسَّمَ ذاته إلى ذاتٍ فقهية/‏وذاتٍ فلسفية، فوجد الحقيقةَ مزدوجة، فقال بحقيقة فلسفية، وحقيقة شرعية، دون أن يتعارضا. هذا التلفيق الرشدي يحيلنا على ورطة العنعنة الدينية التي كان وريثها طه حسين. إلا أنَّ طه حسين زاد طينةَ ورطتِه بتلفيقٍ حديث، باللجوء للمنهج الديكارتي. وشكية ديكارت منطلقها الذات الميتافيزيقية، التي أوجدت الإله، لا العكس، ومن ثم فأول ما تشك به هي ذاتها (أنا أشك= أنا أفكر) لكن شَكيّة طه حسين، تستبعد (الذات) عن الشكيّة، ومن ثم فإنَّ طه -في كتابه في الشعر الجاهلي- انتقى روايات لا يدخلها الشك، مصدرها الذات غير المشكوك فيها، واستبعد روايات من منطقٍ شكي! وهذا الفعل (اليقيني) من طه حسين منشأه الذات الدينية التي رجع إليها في كتاباته عن أبطال الإسلام!!، ولو وصفتُها بسخريةٍ لقلتُ: (إنَّ طه حسين يُعنعن دينيًا في مجالس فرنسية) والمراد ليس مواجهة طه ذاته، وليست القضية هي من أول من أدخل الرواية على عالمنا العربي أو المسرحية أو المنهج أو إلخ...، أو هل فلان جلب أم لا...؟ لأن ذلك فعل جماعي -وإن قَلَّ العدد بحسب الزمن- متقولب داخل ظروفه المؤسساتية، ويخضع لسلطة خطاب ذلك الزمن (وفي سياقنا: الخطاب المزدوج بين فعل ديني وعقل ميتافيزيقي). لهذا فإنَّ الظرف الذي نشأ به طه حسين وأحمد أمين، وتوفيق الحكيم، وشركاؤهم، هو الفعل المتمثل بالإسناد إلى ذاكرة دينية، مع استعمارٍ غربي، أي لنقل: التاريخ الإسلامي المعجون بالاستعمار البريطاني 1882م، ومن ثمّ كان النتاج مُهمًا لحراكٍ يزيل حمولات الإسناد الديني، إلا أنه يتصارع مع الفعل الديني في الحركة ذاتها، فأنتجَ مذهبا دينيا جديدا -إن صحَّ التعبير- أي أنه تصالح مع الإسناد الديني، لكنه أدخله في قوالب منهجية جديدة. وهنا يأتي السؤال المضحك المبكي: (لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا) إذ هو سؤال يعبر عن مفهوم البطولة الأبوية المترسخة في النظرة الإسلامية المنغلقة على الإٍسناد الديني فحسب! أو النظرة المنفتحة/‏المنغلقة التي جاءت بعد البعثات إلى أوروبا. لأن سؤالَ: (لماذا تخلفنا، وتقدم غيرنا) أُخِذَ من قِبَل الثقافة العربية/‏الإسلامية في إطار التساؤل بثنائية أبوية: (نحن/‏هم) النابعة من المركزية الإسلامية. فجاءَ السؤالُ ضِمنَ مسارات ثلاثة: الأول: مسار إسلامي ليبرالي (الطهطاوي، أحمد لطفي السيد، ثم طه حسين وشركاؤه.. إلخ) الثاني: مسار إسلامي اشتراكي يتفرع إلى: أ/‏ إسلامي اشتراكي في الجذور (سيد قطب، وأخوه محمد.. وغيرهما)، ب/‏ إسلامي اشتراكي في نمط إدارة البلاد، وعوائدها النسبية على الرعية. الثالث: مسار إسلامي إصلاحي ويتفرع إلى أ/‏ مسار إسلامي إصلاحي في الوعي أولا: (أرسلان، الأفغاني، محمد عبده.. إلخ). ب/‏ مسار إسلامي إصلاحي في الجذور (الكواكبي مثلا وغيره).


ومِن هُنا فإنَّ المراد مواجهة صيرورتنا التاريخية، وكيف نتخلص بها من الحمولات التاريخية، القائمة على البطولات المستمدة من مفاهيم مطلقة سواء دينية أو ميتافيزيقية. ولنُنتج حقائقنَا المتغيرة بالوعي بصفته فعلا تاريخانيا، فيتشكل الواقع الموضوعي -على ضوء ذلك- بلا حمولة مركزية ثابتة.