عقد هذا الأسبوع في الولايات المتحدة اجتماع استثنائي لدول الثماني (G 8)، وقد ركز هذا الاجتماع على أزمة الديون الأوروبية، ولم لا، فقد تسببت أزمة الديون الأوروبية، وما زالت، في إحداث نتائج سلبية، على رأسها تباطؤ في الاقتصاد الأوروبي، وحتماً تباطؤ ملازم في الاقتصاد العالمي، حيث إن الاقتصاد الأوروبي يمثل أكثر من (25%) من الاقتصاد العالمي. ولعل من علامات تباطؤ النمو الاقتصادي في أوروبا ارتفاع نسب البطالة إلى أكثر من (20%) في بعض الدول الأوروبية، وانخفاض الصادرات الأوروبية، وارتفاع معدلات الديون السيادية إلى أكثر من (100%) من الناتج القومي، والأخطر عدم قدرة بعض الدول الأوروبية على سداد ديونها السيادية في الوقت المحدد، مثل اليونان وإسبانيا. وما يحصل في أوروبا من أزمات اقتصادية حادة، واحدة بعد أخرى، الأزمة المالية عام 2006، وأزمة الديون الأوروبية الحالية، وما تتسبب فيه من تباطؤ ليس فقط في الاقتصاد الأوروبي، وإنما في الاقتصاد العالمي، كل هذا قد يؤدي إلى كساد اقتصادي، على الأقل، في أوروبا، إن لم يكن في العالم، وهي نتيجة محتمة، إذا لم يتم التعامل معها وحلها بشكل غير تقليدي.
في كل الأزمات السابقة سواء في أوروبا أو غيرها، كان التعامل معها من خلال حلول تعتمد على التعامل مع البنوك التجارية بشكل رئيسي، حلول تستند إلى تأجيل مواعيد استحقاقات الديون والحصول على قروض إضافية، حلول أثبتت يوماً بعد يوم، وأزمة بعد أزمة، فشلها وعدم قدرتها على حل هذه الأزمات بشكل عملي وصحيح.
فلسفة واستراتيجية البنوك تقوم على تعظيم عوائدها المالية البحتة، وهذا يعني توجيه استثماراتها نحو المجالات الأكثر عائداً ولكن الأقل مخاطرة، مع التركيز على المدى القصير في استثماراتها، وهذا يعني أن مصالح البنوك تتعارض مع مصالح الدول العامة في المجمل، مصالح الدول عادة تقتضي الاستثمار على المدى الطويل، مصالح تركز على الاستثمار في الموارد البشرية أولاً وأخيراً، استثمار يعني تحويل الموارد البشرية من موارد مستهلكة إلى موارد بشرية منتجة، وهذا ليس من أولويات البنوك.
في السابق، كانت مساهمة البنوك التجارية في الناتج القومي العالمي لا تتعدى (10%)، ومع تنامي دور البنوك التجارية واختراع أدوات وأسواق مالية واستثمارية جديدة لأغراض إدارة أموال الأفراد والدول، بقي تداول الأموال بين البنوك والأسواق المالية، بدلاً من استثمارها في صناعات وخدمات ذات قيمة مضافة عالية للمجتمعات والأفراد والدول، خدمات وصناعات تعتمد على الاستثمار الأمثل في الموارد البشرية المحلية، فقد زادت النسبة إلى أكثر من (40%)!
ما تواجهه أوروبا من أزمة مالية وديون سيادية فتح الباب على مصراعيه لمناقشة المشاكل الاقتصادية التي يواجهها العالم اليوم، مشاكل في البطالة، حيث يصل أعداد العاطلين عن العمل عشرات الملايين، وأكثرها خارج أوروبا، ومنها دول الشرق الأوسط، ومشاكل في مدى توفر المواد الغذائية الأساسية، وكذلك تضخم ارتفاع أسعارها، مما يعني ازدياد معاناة الفقراء في شتى أنحاء العالم، إضافة إلى مشاكل متعلقة بانخفاض مستوى وجودة الخدمات الصحية في بعض دول العالم، وزيادة معدلات الفقر والجريمة والحروب.
تعامل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمات الدولية الأخرى مع الأزمة الأوروبية يختلف شكلاً ومضموناً عن تعامله مع مشاكل الدول الأخرى، وخصوصاً دول العالم الثالث، فمن الواضح وجود تحيز كبير في قضية التعامل مع الأزمة الأوروبية، وهو تعامل يثير مشكلة مدى عدالة تمثيل وتعاطي المنظمات الدولية مع المشاكل الدولية، والحاجة إلى إجراءات تصحيحية تعيد التوازن والمساواة لدور ومسؤولية هذه المنظمات تجاه القضايا الدولية الاقتصادية.
قد تدخل أوروبا في كساد اقتصادي، وبالتالي العالم كله قد يواجه كساداً اقتصادياً، وحتى إذا لم يحصل ذلك، فإننا حتما نواجه حالياً تباطؤاً اقتصادياً وبشكل متزايد في أوروبا بشكل خاص، مما يعني تسبب هذا الكساد في تبعات اقتصادية سلبية، حتماً سوف تؤثر على جميع دول العالم ولكن بدرجات متفاوتة. فعلى سبيل المثال، إذا ما كان هناك كساد اقتصادي في أوروبا، فإن ذلك يعني انخفاض الإنتاج الصناعي بشكل خاص، وبالتالي انخفاض الطلب على الطاقة بأنواعها، وأهمها النفط والغاز، كما أن حدوث كساد في أوروبا يعني انخفاض الاستهلاك الأوروبي وبالتالي انخفاض استيراد المنتجات الأجنبية ومنها الصينية، على سبيل المثال، مما يعني أيضاً انخفاض الإنتاج في دول صناعية غير أوروبية مثل الصين والهند واليابان وجنوب أفريقيا والبرازيل وغيرها من الدول الصناعية الناشئة، وهذا أيضاً سوف يتسبب في انخفاض الطلب على الطاقة بأنواعها.
انخفاض الطلب العالمي على الطاقة قد يعني الكثير بالنسبة للدول المصدرة للطاقة ومنها دول الخليج، فأي انخفاض في الطلب على الطاقة سوف يؤدي حتماً إلى انخفاض أسعار الطاقة، وهذا يعتمد بشكل كبير على مرونة أسعار الطاقة، وبما أن حجم العرض شبه ثابت نوعاً ما، بينما معدلات الطلب متذبذبة ونتيجة لحدوث كساد اقتصادي فإنها سوف تنخفض بشكل كبير، لذا فإن انخفاض أسعار البترول نتيجة حتمية.
في ظل هذا المعطيات والتقلبات الاقتصادية واحتمالات حدوث كساد اقتصادي في أوروبا بشكل خاص، فإن على الدول بشكل عام ودول الخليج بشكل خاص العمل على تقييم وضعها الاستثماري والاقتصادي ووضع الحلول الكفيلة لتفادي وتقليل أثر الأزمات الدولية على اقتصادياتها، وقد يكون أفضل حل يمكن تطبيقه يتمثل في تحول جميع إيرادات النفط لصالح صناديق سيادية يتم استثمارها في أصول منتجة محلياً وخارجياً كما فعلت النرويج، مع فصل ميزانية الدولة عن إيرادات النفط.