على هامش احتفالية أكاديمية الشعر العربي بحفلها السنوي لجائزة الأمير عبدالله الفيصل للشعر العربي، اختارت اللجنة المنظمة جدولة موضوع «مستقبل الثقافة العربية» ضمن موضوعات الندوات المصاحبة، وكان مفاجئا لكثير من الحضور النغمة المتفائلة التي طغت على الندوة.

وفسر ذلك علي بن تميم، الأمين العام لجائزة الشيخ زايد للكتاب، أن التفاؤل «غلاب» على حديث العرب في مؤتمراتهم، لكنه عزيز في كتاباتهم، ولعل لعامل الاجتماع في المؤتمرات والوحدة حال الكتابة دور في ذلك، ومع التأكيد على مناسبة هذا التفسير، إلا أن للنظرة المتفائلة لمستقبل الثقافة العربية أسبابًا من الواقع تبعث على التنبؤ بمستقبل أفضل.

أول هذه الأسباب هو انحسار المد الأصولي عن عالمنا العربي، فالقضاء على داعش، ثم اندحار التيارات الإخوانية، حتى لم يبق من مظاهرها إلا ظلال الولي الفقيه، والتي ما زالت تحجب النورعن بعض بلاد العرب بأذيالها وأذنابها.


هذا الصعود والانحسار للأصولية والتطرف، بما سببه من آثار سلبية، وتعطيل لمشاريع النهضة والتنمية، من الضروري أن يحظى بما يستحق من درس وتحليل، حتى لا نقع فيما وقعنا فيه مرة أخرى، من غير أن يؤخرنا هذا الدرس والتحليل عن المضي قدمًا وتجاوز آثار تلك المرحلة. وهنا يأتي السبب الثاني لنظرة تفاؤلية لمستقبل الثقافة العربية، وهو أولوية الهم الثقافي ، وهذه الأولوية تعبر عن وعي القيادة السياسية في كثير من الأقطار الرائدة بأهمية دعم وتطوير الثقافة المنفتحة مؤسسات ومنتجات، «حتى لا نقع فيما وقعنا فيه مرة آخرى». ومن الأمثلة على ذلك في السعودية هذا التركيز الكبير من الملك سلمان شخصيًا – وهو من هو كما يعرفه الجميع قارئًا ومثقفًا ومهتمًا بضروب كثيرة من علوم التاريخ والتراث- ومن ولي عهده مهندس رؤية المملكة 2030، حيث يحتل الاهتمام الثقافي منها القلب في مختلف مشاريعها، وبالإمكان أن نجد الشواهد على هذه الأولوية الثقافية في عدد من المبادرات دول أخرى تجاوزت أزمة الأصولية والتطرف، فأول المشاريع في العاصمة الإدارية الجديدة في مصر هو مشروع المتحف المصري.ومما يدفع كذلك إلى التفاؤل حول مستقبل الثقافة العربية هو شباب الاهتمام الثقافي، فلفترة طويلة كان الحديث الثقافي حديثا «عجائزيًا»، ما زال يعيش أحلام شبابه في الستينيات، ونضجه في السبعينيات، ومعاركه في الثمانينيات وسباته في التسعينيات، وبعثه في العقد الأول من الألفية، كما يكون البعث من الأجداث، ومن ثم رغبة مستميتة من «المبعوثين» في احتكار المشهد، واستكماله من حيث توقف. ومع التأكيد على أنه لن يكون للثقافة مستقبل بلا رواد تستند إلى خبرتهم وتستفيد منها، ولكن داعي التفاؤل هو أن هناك جيلا لم يكتف بهذا القدر في الاستناد والاستفادة، ولكنه أقبل يستشرف طرائق جديدة في مختلف أوجه الثقافة، وبعضها وجهات أساسا لم تكن مطروقة لدى الجيل السابق، كما أن هذه الأجيال الجديدة تجاوزت الماضي وقضاياه، وبدت أكثر انفتاحا على كل الأطياف والألوان. ولعل من مزايا هذا الجيل، ونظرا لطبيعة تكوينه -وكثير منهم هم جيل الألفية أو قبلها بقليل-، هو تحرره من العلاقة «الكاثوليكية» التي ربط الجيل السابق بها بين الثقافتين العربية والغربية، فبغض النظر عن استقبال بعضهم مستبشرين، أو إعراض البعض الآخر بتجهم وغضب، فقد كانت المسيرة كلها مرتبطة ارتباطًا مصيريًا بالغرب. فالجامع بين أماني «أخذ ما في الغرب بعجره وبجره» وتهويلات «جاهلية القرن العشرين» هو الغرب، وكأن العالم كله هو الغرب ونحن فقط، أزعم أن جيلًا من مثقفي اليوم والمستقبل قد شرع في تجاوز هذه الثنائية والانفتاح أكثر على العالم كله، وأصبح يتعامل مع الجميع -بما فيه الغرب، على الرغم من تحفظي على هذه الإطلاقية- بانفتاح وثقة، انفتاح يعكس رغبة التعلم من مختلف الثقافات التفاعل معها، وثقة في أهمية ما تقدمه الثقافة العربية بعمقها وتنوعها الفكري للحضارة العالمية. وبهذه المعطيات –وغير المكتملة كما يرى البعض- يبدو أن بالإمكان التفاؤل بمستقبل أفضل للثقافة العربية، يتم صناعته في مراكز ثقافية جديدة مثل الرياض وأبو ظبي، وتشارك المؤسسات «غير الثقافية» مؤسسات الثقافة في صياغة هذا المستقبل الواعد، هذه المساهمة من المؤسسات «غير الثقافية» تتنوع حسب طبيعة هذه المؤسسات أساسًا وأدوارها الاجتماعية والاقتصادية، ومدى علاقتها المباشرة بالإنسان الذي تتمحور حوله الثقافة، ومن هنا يأتي الدور المهم للمؤسسات التعليمية عمومًا والجامعات خصوصًا. ويتأكد دور الجامعات في دعم الثقافة العربية وصناعة مستقبلها من خلال إعادة الاعتبار أولاً للإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وهو ما أطلقنا عليه في مناسبة أخرى اسم «التخصصات الثقافية»، حيث تعد هذه العلوم والتخصصات بما تشمله من اللغويات، وعلوم الإنسان والنفس والاجتماع والفلسفة والتاريخ، المادة الأساسية في صناعة الثقافة، والتي عانت لفترة طويلة من الهجر والإهمال تحت دعوى المواءمة مع سوق العمل، ونتج عن ذلك تصحر كبير في هذه الأقسام، وتدن في إنتاجها العلمي، وضعف في جودة مخرجاتها، لكن مع الاهتمام السياسي بالشأن الثقافي الذي سبقت الإشارة اليه، وما نتج عنه من صناعة سوق ثقافية متطلبة للكفاءات في مختلف ميادين الإبداع والفكر والفنون، فالعودة لإحياء هذه التخصصات ودعمها إن لم يكن لأجل أهميتها في بناء الجامعات أساسًا، فعلى الأقل من أجل متطلبات سوق العمل الجديد. ومثل ذلك، تتأكد أهمية إعادة موضعة الأنشطة الثقافية على رأس الأنشطة اللاصفية في الجامعات، حيث يعد المسرح المدرسي ثم الجامعي، بما يكتشفه ويطوره من مواهب، الحاضنة الأولى للمبدعين في شتى المجالات . وبعد طول هجر لهذه الأنشطة في دهاليز الجامعات لعقود من التخوف والحصار الذي فرضته تيارات متشددة، فإن التفعيل للأنشطة الثقافية يتطلب بناء شراكات مع المؤسسات الثقافية خارج الجامعة، والاستفادة منها في إحياء تلك الأنشطة، خصوصًا ، وسيكون مفاجئًا للجامعات مقدار الحماسة التي تلقاها بها مؤسسات «الثقافة» عند العمل في هذه المشاريع المشتركة.

وقد مررنا بهذه التجربة عند تأسيس أول ناد طلابي للموسيقى في أكاديمية الشعر بجامعة الطائف عام 2019، فبعد عرض المشروع على وزير الثقافة، وجه عاجلاً بدعم المشروع وتشكيل فريق برئاسة الموسيقار عبدالرب إدريس لزيارة الجامعة ولقاء طلبة النادي، كما كان لمساهمة المهتمين والفنانين في جمعية الثقافة والفنون بالطائف دور رئيس في إطلاق أعمال النادي ، ومازال دعم الوزارة سخيًا لأكاديمية الشعر العربي ورعاية مبادراتها، وذلك حديث آخر يستحق عودة في مناسبة أخرى.

وبهذه الخطوات المقترحة في إعادة الاعتبار للإنسانيات، ودعم الأنشطة الثقافية داخل الجامعة، والشراكة مع المؤسسات الثقافية خارجها، تصبح الجامعة أكثر جاهزية للمساهمة في دفع الثقافة عمومًا، وأخذها إلى مجالات أوسع، فبحكم علاقاتها الدولية مع الكثير من المؤسسات الأكاديمية حول العالم، ستلعب الجامعة «المهتمة ثقافيًا» دورًا مؤثرًا في تقديم الثقافة العربية من خلال شركائها وأنشطتها معهم حول العالم.كما أنه بحكم تنوع ما فيها من تخصصات علمية وتقنية، ستقوم بدور أساسي في دعم حضور «العلم» في الثقافة، فعالمية الثقافة العربية في عصور نهضتها، والتفاؤل حول دور مستقبلي أكبر لها في الحضارة العالمية، يعتمد في جوانب كثيرة على استيعاب أفضل لثقافتنا العربية لـ«العلم» وتعاملها بإيجابية مع فلسفته ورؤيته للعالم.

وقد كان لبعض العلماء المثقفين قصب سبق في ذلك، فكتاب راشد المبارك «هذا الكون ماذا نعرف عنه»، ومن قبله مبادرة «الفيزياء للأدباء» من خضر القرشي، تمثل ريادة تستدعي الرعاية المؤسسية والدعم المستمر. وإضافة إلى دورها الممكِّن في انفتاح الثقافة على العلم الحديث، فللجامعة دور واعد في تصالح الثقافة مع التقنية، وتغيير النمط السلبي نحو التكنولوجيا ومخرجاتها وآثارها، وقد أثار هذه النقطة ببراعة البروفيسور فيراريس (أستاذ الفلسفة في جامعة تورينو الإيطالية) في حديثهم الختامي لمؤتمر الفلسفة في الرياض بداية الشهر الحالي، حيث أكد على الحاجة لهذه المصالحة، بحيث يتجاوز الخطاب الثقافي أوهام التخوفات من التقنية و«أسطرة» أشباح الروبوتات والذكاء الاصطناعي، فالتقنية هي صناعة الإنسان لتحسين حياته وجعلها أفضل، ولأسباب كثيرة هي في طور التحول لتكون أكثر توفراً لأعداد أكبر من البشر حول العالم. وفيما يخص تقنيات الذكاء الاصطناعي، فـ«الوظائف» الثقافية في سوق العمل المستقبلي بما تتطلبه من إبداع وابتكار هي الأبعد عن خطر الإحلال والاستيلاء عليها تقنيًا، فلمساهمة الجامعة في انفتاح الثقافة على العلم دور في توسيع آفاقها ومجالاتها المستقبلية، كما أن مصالحتها للثقافة مع التكنولوجيا، وبالتالي تمكينها لتوظيف أفضل لمخرجات الأخيرة سيؤدي إلى توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صناعة الثقافة وحضورها لدى مختلف الشرائح المجتمعية.

ختاما، مستقبل الثقافة العربية لا تصنعه المؤسسات الثقافية وحدها، كما أن مساهمة المؤسسات «غير الثقافية» كالجامعات في صناعة هذا المستقبل، وتفاعلها مع هذا الحراك، محدد رئيس لطبيعة دورها وحضورها المجتمعي والتنموي عموما، وكما قيل عندما يكون يتجاوز حجم التغيير في البيئة الخارجية عمليات المواكبة لهذه التغييرات داخل المؤسسات، فلنتأكد من قرب انتهاء دورها في المجتمع.