مرة أخرى، لا ينبغي التقليل من شأن تاريخ الإذاعة السعودية وبداياتها، صحيح أن المرسلة التي بدأت بها «205 كيلو وات» كانت محدودة التغطية، وأن برامجها كانت متواضعة، لكن القول بأنها بدأت من خيمة في عرفات، أو أن أساس فكرتها بدأ من رحلة البحث عن مكبرات الصوت، لاستخدامها في البحث عن التائهين في الحج، هو قول لا يخلو من المبالغة والتجني.

وفي البداية، لابد من التأكيد على أن كاتب المقال ليس شاهد حال على أحداث تلك الفترة، لكنه ينطلق من اهتمام بتسجيل تاريخ وسائل الإعلام بشكل سليم ودقيق، خدمة لطلاب الإعلام أولاً، ولتلافي غرس انطباعات غير دقيقة عند القراء.

والذي يتتبع ما كتب في «أم القرى» و «البلاد السعودية» و «المنهل» و «المدينة المنورة» و «الحج» في حينه، يجزم بأن الإذاعة لم تبدأ من عرفات أو من منى، أو من مكة المكرمة، وإن كان افتتاحها قد تزامن مع الحج، وهناك ثلاثة أدلة ـ في الأقل ـ على ذلك: الأول: لم توجد إمكانية فنية للربط بين مكة المكرمة والحرم الشريف والمشاعر المقدسة من ناحية، وبين جدة ـ مقر الإذاعة ـ من ناحية أخرى، إلا بعد افتتاح الإذاعة في جدة بعامين، وذلك بعد أن افتتح أستوديو مكة المكرمة في جبل هندي مطلع سنة 1371هـ.


الثاني: أن الإذاعة ـ وإن كانت تسمى باسم مكة المكرمة ـ قد بدأت من جدة ليلة عيد الأضحى المبارك، ولم يوجد أستوديو آخر للبث من مكة المكرمة إلا بعد عامين.

الثالث: وهو الأهم، أن الأخبار المنشورة في ذلك الوقت، تؤكد أن ما قدمته الإذاعة ليلة الافتتاح، كان عبارة عن تسجيلات من عرفات ولم يكن بثا حيا «مباشراً»، وهو ما يثبت أن القول بميلاد الإذاعة من عرفات كان تعبيراً مجازيا، لأن المذيعين كانوا يسجلون الابتهالات وغيرها، ثم تنقل إلى جدة بالسيارات، «وهو الأسلوب المتبع لسنوات لاحقة»، يضاف إلى ذلك، أن الإذاعة السعودية افتتحت بعد ساعة النفرة من عرفات، فلا يعقل أن تكون بدأت منها، وقد ذكر المهندس موسى المجددي أن البث الحي من عرفات أصبح ممكنا في حج عام 1373 هـ.

وأما بالنسبة لما يعتقد بأن الإذاعة قد نبعت فكرتها من رحلة الشيخ عبدالله السليمان، وزير المالية آنذاك «1368هـ» لحضور معرض زراعي في مصر، حيث وجد مكبرات الصوت تستخدم للإعلان عن المفقودين.. إلخ، وهو ما تردد نشره في إحدى الصحف السعودية قبل أيام، منسوباً للشيخ عبدالله بلخير والشيخ هاشم زواوي، هو اعتقاد مبالغ فيه أيضاً، يرده جملة من المسلمات ومنها:

1- أن مكبر الصوت قد استخدم في الحرم الشريف في حج عام 1366هـ، أي قبل افتتاح الإذاعة بعامين. 2- كما استخدم مكبر الصوت في العام التالي 1367هـ في الحرم النبوي الشريف وفي المشاعر «في مسجد نمرة ومسجد الخيف» أي قبل افتتاح الإذاعة بعام واحد.

3- أن الإذاعة قد تأسست بشكل نظامي عام 1368هـ، بمواصفات فنية جيدة، زودني بنسخة منها إبراهيم فودة رحمه الله ـ ووقعها عبدالله السليمان في مبنى السفارة السعودية بمصر «رجب 1368هـ»، وكانت صحيفة الحوادث المصرية قد أجرت في حينه مقابلة معه، أشار فيها إلى المشروع.

1995*

* إعلامي وأكاديمي سعودي «1944-2019».