تكمن كثير من الاختلافات الفقهية في بذل المجتهد وسعه، للوصول للمعاني والمقاصد والعلل التي أرادها الشارع في تحقيق الحكم الشرعي التكليفي المتقرر على المكلفين في الواقعة والنازلة الحادثة في الزمان والمكان والبيئة، التي تُحيط بمن يُريد إيقاع تلك النازلة، وبمن ينُظر فيها، كي يتصورها، ثم يُكيفها، ثم يُنزل عليها ما يتصوره، ويظنه حكمها الشرعي. وتلك العملية الإجرائية، التي تمر بها النازلة، وما يتلوها من نظرٍ للمجتهد، الذي يبذل قصارى جهده، مستصحبا أدواته العلمية والمعرفية، لفهم النصوص، هي الإجراءات التي تخفى على العام، لأن العامة عند النوازل يخبطون فيها خبط عشواء، ويضربون الأقوال بعضها بعضا، فتضيع فيها أفهام أهل العلم والمعرفة، ويصبح الخروج من دوامة الجهل المتراكم في مرحلة صعبة جدا، ويحتاج إلى علاج شاق جدا، لأن هذه الدوامة هي من مواطن الضعف في المجتمعات، التي يمكن أن ينفذ منها كل فكر منحرف ومتطرف. ولكي تتضح الأمور سأضرب مثالا على مسألة لها ثقلها فيما يُسمى «مسائل الفقه ذات الخلاف العالي»، وذلك لما تحتويه من آثار ونتائج لا تزال انعكاساتها موجودةً، ونُعاصرها ونُشاهدها حتى يومنا هذا، حيث دارت عليها النقاشات والحوارات، ولا تزال تروم حولها كثير من المناظرات، وينقسم فيها المتحاورون إلى فئتين، كل منهما تصم الأخرى بالضلال والتشدد، وإضاعة الدين، وتمييع قواعده وأصوله. هذا المثال يتمثل في حديث «لا نكاح إلا بولي»، حيث إن هذا الحديث كانت له أصداء واسعة في جميع الجهات، سواءً كانت تلك الجهات إعلامية تقليدية أو إعلامية حديثة، أخذت في التغلب والسيطرة، وتحاول أن تُزيح كل جهات إعلامية تقليدية لم تُقدم الفكر الواعي، كي يقف ندا للجهات الإعلامية الحديثة والسريعة، التي تفتقد غالبا إلى المحتوى الحقيقي والموضوعي الهادف، الذي يُغذي النفس والعقل بكل مقومات بقائهما على الوجود، وتلك مسألة خارجة عن نطاق ومحتوى هذا المقال، علَّ العمر يطول، فيتم تصورها والنظر فيها. حديث «لا نكاح إلا بولي» هو عمدة لدى الفقهاء في تأسيس مسألة من مسائل النكاح، خصوصا شروط انعقاده، وذلك لأن كل مسألة فقهية يتأسس عليها حكم شرعي لها أركان وشروط. فأما الأركان، فلا يمكن أن تخرج ماهيتها للوجود إلا بها أي أصل حقيقية الشيء. وأما شروطها، فإن الماهية موجودة لتلك المسألة الفقهية، وقد وقعت بالفعل، بيد أن صحة تلك المسألة، وما ينتج عنها من تصرفات وآثار، يكون مرتبطا بما ورد من الشارع من شروط، لصحة ذلك الفعل، وتلك الشروط عادةً تكون من موارد التأويل والاختلافات الفقيهة. لذا، فإن الفقهاء اختلفوا في فهم حديث «لا نكاح إلا بولي» على فريقين مشهورين في الجملة، فمن الفقهاء من قرر أن النفي الوارد في معرض هذا الحديث هو نفي لصحة النكاح، وأن النكاح لا يكون صحيحا إلا بوجود الولي، كي يعقد، وترتب على ذلك أن المرأة العاقلة البالغة الراشدة لا يجوز لها أن تزوج نفسها دون وجود ولي، وأن عقد النكاح الذي تم بين زوجين دون وجود الولي الشرعي للمرأة المتزوجة هو عقد باطل وغير صحيح، ولا يرتب آثاره، وقد أرتكب الزوجان مخالفة شرعية ونظامية، تترتب عليها عقوبة: تعزيرية لدى بعض المجتمعات، وقانونية لدى البعض الآخر. ومن الفقهاء من ذهب مذهبا آخر في تأويل هذا النفي الوارد للحديث، وأنه نفي للكمال، وليس لصحة عقد النكاح، وأن الأكمل والأوجه للمرأة أن يتولي وليها عقد نكاحها، إكراما له واحتراما، بيد أن المرأة إذا عقدت على نفسها دون وجود الولي، فإن زواجها صحيح وشرعي، ويرتب آثاره. وهناك فريق من الفقهاء اختلفوا في مسألة اشتراط الولي لعقد النكاح على أساس صحة هذا الحديث وضعفه، فذهب فريق إلى صحة هذا الحديث، وأعتبره حجة في التأصيل الفقهي لوجود الولي، وأنه شرط صحة لعقد النكاح. وهناك فريق من الفقهاء من ذهب إلى إعلال هذا الحديث بعدة علل، ومنها أنه حديث مرسل، والحديث المرسل ليس حجة عند المحدثين، لأنه فقد شرطا من شروط صحة الحديث، وهو الاتصال والتسلل إلى مقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهذه العلة تجعل هذا الحديث ليس حجة يمكن أن يتأسس عليها حكم شرعي، وهذه مسألة الخلاف فيها كبير وواسع بين الفقهاء، وليس فيها نص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة في فهمه وتأويله، ولا يمكن التعامل معها على أنها مسألة فقهية يمكن إعطاء حكمها لآحاد الناس، ويتم تعميمه على الكافة، وذلك لأنها مسألة تمس شريحة كبيرة من المجتمعات. ولما كان هذا الحال من مسائل الفقه والمعرفة، وكان الناس والمجتمعات بحاجة إليها، وجب تغيير النظر إلى تلك المسائل برؤية معاصرة، لأن تطور المجتمع، وتقدم العالم المعاصر، يتطلبان تغييرا في فهم وتصور المسائل، تأسيسا على تغير الظروف المكانية والزمانية، وتبدل البيئات المجتمعية. لهذا، فإن ترك مسألة مهمة جدا من المسائل، التي يتطلع إلى حكمها أغلب المجتمعات، لمجالس العامة، التي تفتقد للعلم والتأصيل المعرفي، لهو ظلم لأولئك العامة، وتجنيا على مقام العلم. لذا، فإنني أظن أن تقنين هذه المسائل، ووضعها في إطار تشريعي ينظم مسائلها، لهو من أوجب الواجبات، وذلك لعظم مكانة هذه المسألة وموقعها في أوساط المجتمعات، وحاجتهم إليها.