احتفل السعوديون قبل يومين بذكرى مرور سبعة أعوام على تولي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز مقاليد الحكم وقيادة البلاد في فترة بالغة الحساسية مليئة بالأحداث والتقلبات الإقليمية والدولية. وكان ما يجري فيها موضع اهتمام العالم وتحت الأنظار لمركزية دورها وتأثيرها في الاستقرار الإقليمي والعالمي.

وقد اهتمت وسائل الإعلام، بالمناسبة، لرصد تحولاتها. وتناولها الكتاب والمعلقون ومقدمو البرامج بالعرض والتحليل والمناقشة وتسليط الضوء على أبرز المحطات وأوضح الإنجازات.. وكان الاتجاه الغالب على المعالجة العناية ببرامج التنمية المرتبطة بحياة الناس وتطوير البنية التحتية واتساع دائرة المشاريع لتشمل كل مناطق المملكة. ولم يغفل المشاركون عن الإنجازات المرتبطة بالحريات العامة والانفتاح على الآخر وزيادة المتاح من مساحة القول، بغض النظر عن مخالفته للرأي السائد. ولا شك في أن الراصد لمساحة حرية التعبير "النسبية" التي اتسعت في السنوات السبع سيلحظ بروز: نزعة التعبير عن الأفكار والرؤى الخارجة عن السياق العام. وهي أفكار ما كان لها أن تبرز وتحظى بالظهور على السطح ومواجهة ما يقابلها من أفكار ويتناولها المؤيدون والرافضون في غياب ما أتيح من حرية التعبير النسبية. فهذه الآراء "الشاذة" هي إحدى ثمرات هذا المناخ الذي يتيح للفرد أن يعبر عن خوالج نفسه وخطرات عقله بعد أن بدت له نافذة يطل منها على طريق التحرر من الخضوع لسطوة السائد وإن خالف ما يراه. ومن السهل على المتأمل ملاحظة أن هذا "الرفض" بدا عند البعض خروجاً من أجل الخروج وليس تعبيرا عن أفكار أصيلة لها مرجعيتها الفكرية أو ما يسندها من علم ومنطق مقبول، في حين تجلت هذه النزعة عند البعض في رفض الأوضاع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية أكثر منه خروجاً على ثوابت المجتمع.

وهنا يتساءل البعض: لماذا يتمظهر نقد مشاريع التنمية وعدم الرضا عن الوضع الاقتصادي والتحذير من هدر المال العام ورفض سطوة العادات الاجتماعية في صورة المصادمة مع "المقدس" عند أفراد قليلين من المجتمع؟ هل لأن "لافتة" التدين اختلطت بالسياسة والاقتصاد والعادات، وأن هذا الاختلاط، الملتبس باجتهادات دينية ليس موضع اتفاق، أدى إلى ما يحدث من ممارسات تتصل بالاقتصاد والتنمية؟

المسألة تحتاج إلى تأمل هادئ حتى لا يقود استنتاج خاطئ إلى نتائج ظالمة. وفي الساحة السعودية – خلال الأعوام السبعة الماضية – قادت الدولة حراكاً واضحاً في اتجاه المزيد من "المكاشفات" و"المصارحات"، كان بداية عنوانها "الحوار الوطني" الذي فتح قنوات التواصل بين أطياف المجتمع وطوائفه وأتاح للناس التعبير عن رؤاهم وأفكارهم تحت مظلة الدولة، الأمر الذي شجع المترددين، والخائفين والمتوجسين على أن يقولوا – علناً – ما كان يدور في الخفاء أو بين أهل الرأي الواحد أو المجموعات المتجانسة أو الطائفة أو المذهب.. وهذه كانت إحدى ثمرات حرية التعبير في هذا العهد. وكان ما أتيح من حرية التعبير موضع ترحيب وتقدير غالبية أطياف المجتمع وإن تفاوتت النظرة إليه وما قد يترتب عليها من نتائج، فقد "ارتاب" فيه البعض خوفاً على "مكاسب قديمة" ورحب به البعض بحثاً عن فضاء وآفاق جديدة تعمق مفهوم الوطنية وتزيد من مساهمة أهل الرأي والمشورة في نهضة البلاد. ورأى فيه بعض آخر "فرصة" لمواجهة خصوم حقيقيين أو متوهمين لتصفية حسابات متراكمة، كما رأى فيه البعض فرصة يعبر فيها – بوسائله – عن رفضه لمجموعة من الأوضاع. وهناك فئة قليلة رأت في الحريات – النسبية – فرصة تعبر فيها عن أفكار شاذة ما كانت تستطيع البوح بها في غير هذا الظرف، فقد شهدت الساحة "خروج" بعض أبنائها بأفكار تصادم مشاعر عموم الناس وكانت ردود الأفعال حولها متباينة ما بين رافض لها ولأصحابها طالباً إنزال أشد العقوبة بهم جزاءً لهم "وسدا" لذريعة إغواء غيرهم أو نشر ما يطرحونه من أفكار شاذة و"تجديف" لا يتفق مع معتقدات المجتمع المسلم المحافظ.. ووقف فيها البعض موقفا أقل حدة من حيث نظرته لمواجهة أصحابها، فرغم رفضه لمضمونها إلا أنه يختلف في أسلوب المواجهة والعلاج، فهذا الفريق يرى أن "استعادة أصحاب الأفكار الشاذة" بالحوار والتبصير إلى الصواب أسلم وأنجع وأكبر تأثيرا عليهم، فالحوار هو السبيل لردهم إلى جادة الطريق وتخليهم عن أفكارهم الشاذة وهو الأسلم لإقناع من قد تغريه تلك الأفكار عندما يتكشف بطلانها.. وهناك فريق ثالث لا يرى الدخول في أي مناقشة أو مجادلة مع أصحاب الأفكار الشاذة واعتبارها شيئاً عادياً لا يخلو منه أي مجتمع. وأن المجتمعات الإنسانية الطبيعية لا بد أن تكون فيها بعض الأفكار الخارجة عن السياق العام، يؤمن بها ويتبناها أفراد لكنهم لا يعبرون عن المجرى العام للحياة. وأن المجتمع السليم هو الذي تكون لدى غالبية أفراده "المناعة" ضد جرثومة الأفكار الشاذة، بل وجودها وعدم تأثيرها هو دلالة على صحته وأصالة فكره.

وهذا الحراك والنقاش والاختلاف هو من ثمرات حرية التعبير التي اتسعت نسبياً في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز والتي تستحق أن تكون إحدى منجزات عهده التي يحتفل بها المواطنون، وهي إحدى القيم التي يستحق أن يتمسك بها المجتمع ولا يفرط في أسباب استمرارها واتساعها وتعميقها والدفاع عنها. فحرية التعبير وفتح المجال أمام الإنسان ليكشف ما يدور في عقله هي الضمانة الحقيقية للسلم الاجتماعي الذي يشكل المظلة للأمن والاقتصاد والتنمية.. ونحن في هذه البلاد لسنا في معزل عن العالم وما يدور من حولنا من متغيرات، وبقدر ما "نتصارح" بقدر ما نستطيع أن "نتفاهم" حول قضايانا ومشاكلنا ونبحث معا عن حلولها.