يتجه العالم بسرعة كبيرة نحو خفض انبعاثات الكربون وتطبيق مفاهيم الاقتصاد الدائري وابتكار وسائل كثيرة لخفض انبعاثاته وإعادة إنتاجه واستخدامه وتعظيم أثره. وتتفاوت الدول في إمكانياتها. قد تتوفر التقنيات في أماكن مختلفة من العالم، وهي ليست حكراً أو سراً ولكن ما يميّز بعض الدول عالمياً هي إرادتها على مستوى قياداتها، وحاجتها الملحّة لضخ الأموال في مجال اقتصاد الكربون، وفرصها الواعدة، وموقعها الجغرافي، واستعدادها من ناحية القدرات البشرية والكفاءة الوطنية.

تعتبر السعودية من أكثر الدول ملائمة للاضطلاع بدور القيادة في مجالات الاقتصادات الكربونية واقتصاد الطاقة النظيفة مستفيدة من بنيتها التحتية المتميزة التي حرصت منذ تأسيسها على استخدام المعايير العالمية طويلة الأمد، والتي كانت مكلفة من الناحية المادية، ولكنها تعتبر القوة المرتبطة بالمستقبل، حيث تجني حالياً ثمار تلك الاستثمارات في البنية التحتية الصناعية. كما أن السعودية تستفيد أيضاً من موقعها الجغرافي والإقليمي كونها تقع مباشرة شمال خط الاستواء بين بحري الخليج العربي والأحمر.

هذه العوامل تعتبر عوامل نجاح ونقاط قوة ينبغي الاستفادة القصوى منها. وكما بدأت المملكة خطواتها الصناعية قبل أكثر من 80 سنة، وتبنّت استخدام غازات الميثان المنبعثة من معامل استخراج النفط في بناء قوّتها الكيميائية، وبناء شبكات الغاز المحلية والإقليمية، فإنها بحاجة الآن لاتباع نهج مماثل، ولكنه أكثر تقدماً في مأسسة اقتصاد الكربون وإنتاج المواد الكيميائية الدائرية التي تربط بين شبكات الغاز اللقيم وشبكات الغازات الوسيطة وتلك الناتجة من الصناعة off-gases لتحويلها إلى منتجات سلعية ذات قيمة مالية مفيدة.


على سبيل المثال بادرت المملكة مؤخراً إلى استخدام غازات ثاني أكسيد الكربون الناتجة جانبياً من عمليات صناعة الأمونيا لتنتج ما يسمى بالأمونيا الزرقاء، وهي الأمونيا التي يتم إنتاجها من الكربون، على أن يتم تدوير هذا الكربون، وقامت بتحويله بصيغة غاز ثاني أكسيد الكربون إلى معاملها لصناعة الميثانول، وهو ما يسمى الميثانول الدائري، الذي يتم تحويله أيضاً كمادة لقيم لمواد بلاستيكية هندسية مثل البولي إيثلين والأسيتال وغيرها من المواد الكيميائية الأخرى، والتي يباع الطن منها بأعلى قيمة من الدولارات، محققة بذلك أرباح بيع الأمونيا الزرقاء كمنتج صديق للبيئة، والتي تستخدم في إنتاج الهيدروجين ويتصاعد النيتروجين الصديق للبيئة إلى الهواء. وأيضاً تجني المملكة أرباح غاز ثاني أكسيد الكربون CO2 المقبوض عليه من عمليات الإنتاج من خلال بيعه كمواد صناعية معاد إنتاجها. وقد تم بالفعل هذا الإنجاز وتوثيقة محلياً في مصانع السعودية من جهات عالمية متخصصة.

هذا يعني أن السعودية قد خطت خطوة مهمة في تفعيل مبادرتها للاقتصاد الدائري للكربون، التي أعلنت عنها في قمة مجموعة العشرين أثناء ترؤسها المجموعة في 2020م. لكن أرى أن القطاع الصناعي والخاص لا يزال يراوح بعيداً عن تلك الجهود الوطنية، حيث يجب على روّاد الصناعة وكبرى الشركات العاملة في المملكة النظر لهذه الأعمال والسرعة بتبني (اقتصاد الكربون) في عملياتها. فهو لم يعد إضافة صناعية بقدر ما أصبح حاجة ماسة تقودها رؤية المملكة نحو الحياد الكربوني في 2060م. ومن هنا يمكنني تبسيط هذا المفهوم من خلال ضرب مثال على مصنع وطني لإنتاج المواد البلاستيكية الاستهلاكية من البولي ايثلين، حيث ينبغي على ملاك تلك المصانع تأسيس خط إنتاج موازٍ لإعادة استخدام رجيع تلك المواد البلاستيكية التي قد تسترجع من منافذ البيع مباشرة أو من شركات تدوير النفايات.

وبالرغم من أن هذا العمل له فوائده البيئية والمسؤولة اجتماعياً، إلا أنه لا يجب أن يترك لضمير المصنّعين وكبار المستثمرين الذين قد لا تغريهم العوائد المنخفضة لمصانع التدوير. لذلك أقترح ربط خطة التحول الرقمي الوطني مع كميات الكربون المنتجة، والسماح بفاقد أقل 10% لأسباب تصنيعية، على أن ترفق شهادة رقمية مع كل منتج. فطاقة الكربون يمكن حوكمتها إلكترونياً لتأسيس ما نسميه اقتصاد الكربون الرقمي.

إن هذا الاقتراح ليس بعيداً عن الخيال، ولا عن الواقع، بل هو ممكن الحصول بمجرد التنسيق وربط الكميات الداخلة في الصناعة مع الكميات الخارجة منها، مع إرفاق الصيغ الكيميائية والحجوم والكميات للإنتاج، ما يعطينا بشكل واضح أرقاما دقيقة بكميات الكربون، وهو ما سوف يجعل المملكة تتحول بشكل كبير إلى اقتصاد الجيل الرابع في حوكمة الكربون. وسوف أكون سعيداً دائماً لحل أي مشكلة متعلقة بهذا المفهوم الرقمي.