إن كثيرا ما يجول في نفسي مما أراه من مناظر غير مألوفة، وفيها تعد على خصوصية الآخرين، وبالذات خصوصية جسد الأنثى / المرأة، لهو أمر محير ومُشكل، وكما يقول إخواننا الأمريكان «Problematic»، وأصبح يظهر واضحا للعيان، وبشكل لا يمكن أن يُخطئه الإنسان، ويكاد يُشكل وصفا مشتقا من المجتمع وبيئته، بل يمكنني القول إن التعدي يصل إلى كل جسد أنثى، سواءً كانت فتاةً أو امرأةً ناضجة، وذلك التعدي هو مخالفة لقيم المجتمع ومبادئه وأخلاقياته، فضلا عن أنه مخالفة لنصوص الشريعة، والأنظمة المعمول بها في بلادنا، حيث أجد كثيرا من تلك المواقف التي تنطلق منها تساؤلات عميقة عن ماهية حقيقة تلك التصرفات؟، ولم حدثت تلك الأخلاقيات التي تتعارض مع كل ما نؤمن به سواء كان إيمانا دينيا أو إيمانا أخلاقيا، يتفق ومبادئ احترام حقوق الإنسان في الجملة؟. تلك المناظر غير المألوفة وغير السوية، التي تُعكر صفو كل ما يصبو إليه أي مجتمع إنساني من التقدم والتطور، تتمثل في التعدي على جسد تلك المرأة / الأنثى، سواء بالقول أو الفعل أو النظر المقصود، المصحوب بالتركيز العميق على أجزاء الجسد. وهذا يحدث بشكل متكرر ويومي، ونراه أمامنا في الأسواق والأماكن العامة. حتى والرجل برفقة زوجته، يجد كثيرا من أصحاب ذلك الفعل، المصحوب بشىء من الخلل المرضي العضال، ممن تخترق نظراتهم جسد تلك المرأة دون خجل أو حياء من مرافقة زوجها أو ذويها. تلك نظرة دونية للمرأة عموما، إذ إن المراد والمقصود من ذلك التعدي بتلك النظرات الحادة هو إشباع رغبات جسدية لدى المعتدي فقط. هذا الإشباع المتعلق بإشكالية في نفس ذلك المعتدي له أصلٌ وتأسيسٌ في فهم حقيقة تكوين وتشكيل تلك المرأة، وهذا التأصيل لدى ذلك المعتدي فيه خلل كبير واعوجاج خطير، جعله يُكون فكرةً محاطة بأوهام الأعراف البالية والمتخلفة والجاهلية عن الأنثى / المرأة. وكثير من تلك الأعراف الجاهلية والمتخلفة، التي تُشكل العناصر الرئيسة في تأصيل كل معتدٍ على الأنثى ومناطقها المحرمة وأجزاء جسدها، هو أن تلك المرأة جُعلت للاستمتاع واللذة والطرب، وأنه ليس لها دور وظيفي ورئيس في بناء المجتمع الإنساني، وخلق حضارة تفرض هيبتها وشخصيتها أمام الأمم، وأن ثقافة «العيب المجتمعي»، المتأسسة على تلك الأعراف والتقاليد الجاهلية التي تُخالف أحكام الشريعة الإسلامية، هي من العناصر الرئيسة التي تلعب دورا أصيلا في تشكيل فكرة المرأة وما تحتويه وما تُشكله في المجتمع لدى ذلك المعتدى، غير الآبه بكل الأنظمة والقوانين واللوائح عندما يرتكب جرما جنائيا في حق المرأة بمجتمعنا عن طريق جريمة التحرش الجنسي، المُجرمة في كل الأديان السماوية والقوانين والأنظمة في العالم أجمع. وأظن أن إشكالية الاستمتاع باقتحام خصوصية جسد المرأة لها تعلق بتهذيب تلك النفس وتربيتها، وعسفها على الاحترام النابع من الذات والنفس الإنسانية لتلك المرأة، وذلك الاحترام يتكون من عدم الاعتداء عليها بشتى أنواع الاعتداء، والذي جاء منصوصا عليه في المادة الأولى من نظام مكافحة التحرش الجنسي بأنه «كل قول أو فعل أو إشارة ذات مدلول جنسي، تصدر من شخص تجاه أي شخص آخر، تمس جسده أو عرضه، أو تخدش حياءه بأي وسيلة كانت، بما في ذلك وسائل التقنية الحديثة». هذا النص جاء مطلقا في تحديد مدلول الشخص، فهو ينطبق على الجنسين، سواءً كان المعتدي ذكرا أو كانت المعتدية امرأة، وهذا التعميم والإطلاق، الذي جاء به المُشرع والمُنظم، لإحكام الحالات المتعددة التي يمكن أن تقع مستقبلا بغض النظر عن كثرتها وقلتها. كذلك، فإن النص عندما عرف جريمة التحرش الجنسي قيدها ووصفها بأنها تتشكل من أي قول أو فعل أو إشارة ذات مدلول جنسي. فإذا كانت النفس البشرية على فهم ووعي عميق لماهية القول والفعل والإشارة ذات المدلول الجنسي، فإنها سوف ترتدع، وتُكره صاحبها، وتُلزمه بعدم الوقوع في إشكاليات المدلول الجنسي للقول والفعل والإشارة، والاعتبار في كون الفعل أو القول أو الإشارة تحمل مدلولا جنسيا هو أن قيم المجتمع ومبادئه ومصادره، التي يستمد منها أحكامه، إذا كونت ضابطا أو ضوابط محكمة، تُبين بشكل يقيني، لا شبهة فيه، أن هذا القول أو الفعل أو الإشارة تحمل مدلولا جنسيا ينتج عنه الأذى الجنسي والنفسي والبدني والأخلاقي، فإنه لا شك يمكن أن نُكيف تلك التصرفات بأن قيد ووصف الدلالة الجنسية قد أنطبق عليها. بيد أن هذه الجريمة لكي تعتبر السلوك نوعا من أنواع التحرش الجنسي، فإنه لا بد أن يتضمن كونه سلوكا جنسيا ومتعمدا وغير مرغوب فيه من المجني عليها، فالدافع الجنسي هو المحرك لسلوك التحرش، سواء كان قولا أو فعلا، فتدخل كل الإيحاءات والإشارات التي يعتبرها «العرف المجتمعي»، الذي قد اكتملت فيه ضوابط اعتبار العرف لدى الفقهاء والأصوليين، وما تم تكييفه قضاءً بأنه سلوك يحمل مدلولا جنسيا، وذلك بأن سلطة القضاء لديها القدرة على سد الفراغ التشريعي عند وجود نصوص ذات إطلاقات وعموميات، يصعب تنزيلها وتكييفها على الوقائع، حيث إن السلطة القضائية لديها القدرة والمرونة في إيجاد معانٍ ذات ضبط وإحكام في معرفة حقيقة التصرفات الملتبسة والغامضة في كونها ذات مدلول جنسي أم أنها لا يمكن اعتبارها ذات مدلول جنسي. ولمواجهة هذه الجريمة الشنيعة والكريهة والمؤثرة في حياة المرأة، التي كانت ضحية لذلك السلوك المشين، يتوجب علينا أن ننشر في مجتمعنا البرىء، الذي هو على طريق الانفتاح والتطور والتنمية، كل خلق رفيع، ونؤسس لاحترام المرأة، ونمنع أي اعتداءٍ عليها، وأن تُفعل الأنظمة والقوانين بشكل صارم، مما سوف يكون عاملا رئيسا في الارتقاء بالمرأة، ويجعلها في كل مكان من أرجاء هذا الوطن دون أن يُحيط بها أي سلوك أو تصرف يحمل الإيحاءات والمدلولات الجنسية. إن حفظ كرامة المجتمعات، ومقياس رقيها، هو بحفظ كرامة المرأة، وصونها من أن يعبث بها كل متهوك مجنون، لا تُحركه إلا رغباته الدونية، فيكسر العمق الحقيقي لكل مجتمع، ويُفقده القلب النابض له، المتمثل في المرأة / الأنثى.