نلاحظ في القرآن الكريم عند ذكر خلق السماوات والأرض العطف بحرف «ثمّ» الذي يفيد العطف مع مسافة زمنية تفصل بين الفعل قبله والفعل بعده مثل قوله (خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش).

وهذه طبيعة لغتنا البشرية المحكومة بنقصنا المحتوم حين تريد التعبير عن فعل الله تعالى، فهو سبحانه لا زمن له، وأمره واحدة كلمح بالبصر، أي أن تكوّن السماوات والأرض أخذ زمناً حسب طبيعتنا نحن، أما بالنسبة لله تعالى فهذا الزمن = صفر.

* في محاولاتنا لفهم القرآن المبين لا بد أن نعترف بثلاث حقائق:


الأولى: أنه بلسان عربي مبين، وميسر للذكر. فلم يكن المعاصرون له يجدون صعوبة في فهمه، ولا يختلفون على معانيه.

الثانية: أن اللسان العربي، مثل أي لسان، هو انتاج بشري حسب حاجة ومدركات ومحسوسات البشر، وهو ناقص حتمًا لأن الإنسان، بطبيعته، ناقص.

الثالثة: أن الفترة الشفهية الممتدة من نزول القرآن إلى تدوين تفاسيره شهدت دخول غير العرب على خط التفسير، وشهدت اختلافات امتدت إلى خارج اللغة، وكل فريق يحاول، أن يسند نفسه بأقوال سابقيه لدرجة غاب فيها، أو كاد، المعنى المبين البسيط، وليس المقام الآن لذكر الاختلافات وأسبابها ولا لنقضها، ولكن المقام لإضافة رأي بجوارها يتفق، في بنائه، مع أصلهم الأول في التفسير، تفسير القرآن بالقرآن نفسه.

من الألفاظ التي كانت محل خلاف حادّ، في تلك الفترة، لفظ «العرش» وألّفت فيه كتبٌ غلب عليها الطابع العقَدِي أكثر من اللغوي.

بما أن القرآن الكريم بلسان عربي، فإن ألفاظه كلها، كانت من لغة العرب، ويفهمونها حق الفهم، ومنها لفظ «العرش».

في معاجم اللغة: «العين، والراء، والشين أصل صحيح واحد، يدل على ارتفاع في شيء مبني، ثم يستعار في غير ذلك» وجمعه عُروشٌ. وعَرْش البيت: سقفُه، والعَرْش المُلْك، وسرير المُلك، والبيت، وسقف البيت وبناءٌ يُبنى من خشب على رأْس البئْر.

قال الذهبي «ومن المعلوم أن معرفة كل معنى من تلك المعاني إنما يتحدد بحسب ما أضيف إلى الكلمة».

وقال الزمخشري«إنه لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يرادف الملك جعلوه كناية عن الملك، فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون مَلَك، وإن لم يقعد على السرير البتة».

والمُلك هو السلطة التي تحكم وتدير شؤون الناس ومصالحهم ومنه «ولها عرش عظيم» أي لها سرير ملك أو لها ملكٌ وسلطة وإدارة تسري في مملكتها.

لو انقلب قائد جيش ملكة سبأ عليها واستولى على الحكم وترك لها سريرها؛ فهل العرش سريرها أم سريره؟!

في القرآن الكريم (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) يقول الطبري: مما يبنون من السقوف. ويقول القرطبي: «وعرَشَ معناه هنا هيّأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها، ومنه العريش الذي صنع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر».

وقال تعالى (ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون). يقول ابن كثير والطبري وابن عباس ومجاهد: يعرشون: يبنون البيوت والمساكن. وفي اللغة «عرَش العَرْشَ يعرِشه ويعرُشه عَرْشاً: عَمِلَه». وبهذا؛ فالعرْش هو البناء، وهو عملية البناء.

كان لبئر قريتنا عرْش خشبي من أربع قوائم عليها عوارض، تعلق فيها (البكرات= المكرات) بهذه البكرات المعلقة تتحرك الأرْشِيَة بالدلاء، كحركة الكواكب، صاعدةً نازلةً في مساراتها، متفاوتةً السرعات والأثقال.

هذا البناء بعناصره وبصفته وغايته يسمى «عرْشًا» وبه تدار عملية استخراج الماء بنظام واستمرار.

إن اختيار الموادّ في البناء ومقاديرها وتشكيلها والتمديدات بأنواعها وأدواتها ورفعها وتوزيع الغرف وتجهيزاتها والغاية منها والتحكم فيها واستمرارها يدخل ضمن عناصر المبنى، أما المبنى فهو كل ذلك. ونسميه حسب استخدامه، بيتًا، مكتبًا، اسطبلاً، استراحة، أو شققًا للإيجار، ولا نصِفُهُ بأنه «عرْش» الا باعتبار عملية تشييد/‏ تعريش البناء أو إذا اقترن بسلطة وإدارة.

هيكل أي وزارة، كالهيكل الإداري في مملكة سبأ، هو بناء وتمديدات وتوصيلات وإدارات ووحدات وأقسام وآليات وقوانين تمتد من الوزير إلى أصغر موظف، مرورًا بالمباني والأنظمة، فالوزارة ليست هي المبنى ولا الوزير ولا الفروع ولا الموظف ولا القوانين، بل هي كل ذلك، والوزير يتولى تدبيرها. ومكتبه هو عرشه، مجازاً، وهو، مع عروش وزراء آخرين، ضمن عرش المَلِك وتحت أمره وسلطته وإدارته. ولو أن الوزير زار قرية نائية في بلده فهو محتفظ بعرشه، فسلطته وصلاحياته مرتبطة به هو أينما كان ما دام وزيرًا، وحينما يتقاعد فإن قصره وسريره لا يقال عنها عرش، لأنه بلا سلطة.

للأرض في القرآن معانٍ مختلفة منها: الوطن، والكوكب، والأسفل مقابل الأعلى، ومنه «ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض» وفي اللسان «كل ما سفَل، فهو أَرْض».

والسماء في اللغة هو كل ما علاك، وفي القرآن: «السماء بناء» «السماء سقفًا» والسقف والبناء من معاني العرش! وكل الكواكب تتحرك في السماء بما في ذلك الأرض، وهذا لم يكن معلوماً عند العرب ولا غيرهم أيام نزول القرآن، وذِكْرُه الأرض مقابل السماء، مراعاةً لفهمهم وموقعهم من الكون، وبلسانهم: فكل ما تحت قدميك فهو أرض، وكل ما علاك فهو سماء.

يرد لفظ العرش مقترنا بالسماوات والأرض:

«إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق الأمر»

«الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كلٌّ يجري لأجل مسمى، يدبّر الأمر، يفصل الآيات».

«خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبّر الأمر».

خلْقُ السماوات والأرض وما بينهما ضمن قوله «له الخلْق». وانتظام حركة الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم كل ذلك من ضمن «يدبّر الأمر». والأمر يأتي في اللغة بمعنى السلطة والإدارة والتحكم ومنه قولنا «وليّ الأمر» قال ابن كثير في معنى «يدبر الأمر: هو الملك والتصرف (= السلطة والإدارة).

فالكون، مهما اتسع، بسمائه وأرضه، بنجومه وكواكبه ومجراته وحركته، وما علمنا منه وما لم نعلم، هو العرش، الذي خلقه الله تعالى و(يدبّر الأمر) فيه، وفق سُنَنه وتقديره.

ونحن، اليوم، رغم تقدم العلم، لا نعلم عن هذا البناء/‏ الكون/‏ العرش، إلا قليلا، وما أشار إليه القرآن منه إنما راعى فيه ما يمكن، لهم ولنا، فهمه وملاحظته والتفكر فيه واكتساب المعرفة ولم يكلفنا بالتفكر في ما هو غيبٌ مطلقٌ خارج قدرتنا وملاحظتنا. وكانوا حينها، مثلنا، يفهمون أن العرش هو البناء المرتب، وفق غاية ومصلحة، صغيرا كان كعرش البئر أو ملكا كعرش ملكة سبأ، أو بناء عظيماً كالكون، لكن من جاؤوا بعدهم اختلفوا اختلافا حادًّا حين أرادوا، تحت وطأة الاختلاف، من اللغة البشرية الناقصة أن تحيط بما لن تدركه من الكمال المطلق.

لقد لاحظ بعض اطراف الخلاف حول معنى العرش في اللغة والواقع ارتباط لفظ العرش بالبناء وبالسلطة فربطوا العرش بالله كارتباط العرش بالسلطان، من باب قياس الغائب على الشاهد، ووقعوا، من حيث لا يريدون، في التجسيم أو الجهة، قليلا أو كثيراً، حقيقة أو مجازاً. أرادوا من لغة وُضِعتْ للأشياء أن تصف مَنْ «ليس كمثله شيء». وهم، مثلنا، يؤمنون أن الله تعالى، في ملكه وسلطانه، غنيّ عن كل آلة يحتاجها ذوي العروش يجلسون عليها أو فيها ليدبّروا سلطانهم ومصالح بلادهم.