تسلم المدرس القرار بخيبة أمل ومرارة، فبيته الذي يملكه في الرياض، وزوجته معلمة في إحدى مدارس الرياض، وأبناؤه يدرسون في مدارس الرياض. كما أنه قضى عددا من السنوات متنقلا بين مدن المملكة، على أمل أن يستقر به الحال في مدينته الرياض، ولم يكن يعلم أن خلافا بينه وبين رئيسه في العمل سوف يُزعزع «استقراره الأسري». فبدلا من اتخاذ الإجراءات النظامية التي نص عليها النظام في مدونة السلوك الوظيفي، من خلال التحقيق في المخالفة، وإيقاع الجزاء المناسب لها، أوقعت جهة الإدارة عقوبة تُظهر «فظاعة» ما فعله هذا المدرس، إذ إنه خالف آراء وأهواء رئيسه في العمل بأحد الاجتماعات أمام الموظفين.
قرار «النقل» ـ في هذه القضية ـ أصبح كقرار «التعذيب»، الذي وصفه ميشيل فوكو في كتابه «المراقبة والمعاقبة.. ولادة السجن» (1975) بأنه «احتفال من أجل إعادة إقرار السيادة بعد جرحها». ففي مناقشته مراسم التعذيب بأوروبا في القرن السابع عشر، ذكر «فوكو» أن التعذيب لم يكن هدفه إبراز الاعتدال والتوازن، وإنما لإبراز السلطة وامتيازها الضمني، فالعقاب «يجب أن يُظهر الفظاعة عبر الاحتفالات التي تطبقها على جسم المجرم بشكل الإذلال والإيلام». فالهدف من علانية التعذيب، كما يذكر فوكو، هو «إيقاظ الوعي في أن أقل مخالفة سوف تلقى العقاب القوي، بل إثارة مفعول الرعب بمشهد السلطة، وهي تصب سعار غضبها على الجاني». وبإسقاط ذلك على قرار النقل «العقابي»، نجد أن توقيع المدرس نموذجي «إخلاء الطرف» و«تسليم العهد»، وانتقاله من مدينة إلى مدينة أخرى، وبحثه عن بيت للإيجار، وعن مدارس لأبنائه، وزعزعة استقراره واستقرار أسرته، هي عبارة عن «احتفالية عقابية» علنية، سواء أمام زملائه الموظفين أو أفراد محيطه المجتمعي.
وفي محاولة المدرس لمنع هذه الاحتفالية، رفع تظلمه لمدير الجامعة، لعله يجد تعاطفا منه، وأقصد بالتعاطف هنا ما عرفه ماكس شيلر في كتابه «طبيعة التعاطف» (1954) «التعاطف حالة نفسية تجعلك تشعر بأن هناك تساويا في القيمة فيما بين ذاتك وذوات الآخرين كموجودات بشرية أو كائنات حية». فالتعاطف، كما يقول «شيلر»، ليس مجرد مشاركة وجدانية في الألم والسرور فحسب، بل إنه يحطم الأنانية والشرور الأخلاقية للأنا، ويفتح القلب والعقل أيضا. وللأسف، لم يشعر معاليه، في ذلك الوقت، بأن هناك تساويا في القيمة بين ذاته وذات ذلك المدرس، بل إنه لا يريد أن يُفوت على نفسه الاستمتاع بمشاهدة «الاحتفال العقابي»، لكي لا «يجرؤ الموظفون الآخرون» على مخالفة آراء من عينهم وكلاء عنه في صنع القرار الإداري.
وعندما وجد المدرس أنه أصبح ضحية لنرجسية رؤسائه في العمل، وأن الاحتفال العقابي أصبح وشيكا، توجه إلى القضاء بـ«طلب عاجل»، لإيقاف قرار النقل، فأصدرت المحكمة الإدارية «أمرا قضائيا»، ينص على إيقاف قرار النقل حتى البت في القضية الأصلية، ولكن المحتفلين الذين رتبوا مراسم الاحتفال العقابي لم يعجبهم ذلك، فأصدروا قرار «طي قيد» للموظف بسبب عدم مباشرته جهة العمل الجديدة، وكان تاريخ «طي القيد» سابقا لتاريخ «الأمر القضائي»، إلا أن عدالة المحكمة تنبهت لذلك، واكتشفت أن ذلك كان تحايلا، لتفادي تنفيذ قرارها الذي نص على إيقاف «قرار النقل». وبعد عدة مرافعات، اتضح للمحكمة أن قرار النقل كان انحرافا بالسلطة، وعقوبة تقنعت بقناع مصلحة العمل، فقضت المحكمة بإلغاء قراري النقل و«طي القيد».
فيتضح أن قرار النقل، المشار إليه أعلاه، وإن نص في ديباجته على أنه لمصلحة العمل، لم يكن كذلك، وإنما كان عبارة عن عقوبة مُقنعة، ومشروع «احتفال عقابي» مُعلن، الغاية منه التخلص من المدرس، وإلحاق الأذى به، ليكون عبرة لغيره.
في هذه القضية، والقضايا المشابهة لها، يتضح أن ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بـ«أخلاقيات السلطة الإدارية» ونزاهتها في تحقيق المصلحة العامة، وعدم المساس بحقوق الأفراد المُكتسبة ومراكزهم القانونية، بهدف «الانتقام» أو تحقيق «مصالح خاصة». فمن المفترض على الجهة الإدارية، كما ذكرت المحكمة الإدارية في أحد أحكامها، «أن تمثل الخصم الشريف، وتبعا لذلك يتعين عليها أن تعطي الحق لأصحابه دون أن تكبدهم مشقة تجشم المنازعة القضائية».