عندما كبرت بُنيتي، وأصبحت في سن العاشرة، حدث لها شيء جلل في حياتها، تغيرت عليه الدنيا بمن فيها، وذلك بأن اصطدمت الطفلة البريئة بتلك الدراما الحياتية الواقعية، التي ملأت حياتها بتلك الدماء التي لا تعي من أين جاءت؟ وكيف خرجت؟ ولماذا وقع بها هذا الهول؟. أهتز كيانها، وتبدلت أحوالها وأصفر وجهها، وظهر على محياها التعب والمشقة والجَهد. كنتُ أرقبها عن بُعد، ذلك لأن مثل هذه الأمور تتحرج البنية الطفلة من أن يراها أي أحدٍ، حتى لو كان أبوها الذي لا ترى في الدنيا إلا هو. وفي مثل هذه الأحوال، فإن الأم هي الداعم والسند الحقيقي لهذه الطفلة البريئة التي تمر في حياتها بنقلة وتغير نوعي حقيقي، لم ترَ له مثيلا من قبل. أمضت تلك الطفلة البريئة عدة أسابيع وبضعة أشهر، كي تتفهم ما يحدث لها، ولا تزال تلك الواقعة لها أثر ووقع في نفسي شديد، وأنا كنتُ أرقبها من بعيد، فما بالك بالطفلة البريئة، ومدى أثر تلك الحادثة فيه!. الواقعة أرجعتني للوراء قليلا لموضوع لطالما تأملته وبحثته كثيرا، لتعلقه بمثل تلك الواقعة. وذلك الحدث، ولما له من أثر نفسي في حياة كل إنسان عاقل مكلف، لا يزال يرقب المضي في هذه الحياة المكبلة بصروف الدهور وتقلباته، وكان دائما ما يتوارد إلى ذهني، وهو موضوع إشكالية حدود التكليف ومناطه وتحقيقه عند التنزيل، سواء في الأحكام الشرعية أو التكاليف القانونية النظامية، حيث إن الأحكام الشرعية قد تمت إناطتها بالبلوغ والعقل والإسلام.

كانت الإشكالية لدي هي في مناط البلوغ، حيث إنه قد تم ضبطه من قِبل الفقهاء الأقدمين في الجملة، وعلى اختلاف بينهم في الفروع والتفاصيل. ذلك الضبط لمناط البلوغ عند الفقهاء المحققين هو بلوغ الفتاة المحيض وإنزال الشاب، وقدرتهما على الإنجاب، كما يُقرره بعض الفقهاء والمفسرون مثل الإمام الشيخ الشعراوي، رحمة الله عليه. وهذان المناطان قد أتفق عليهما الفقهاء، لورود بعض النصوص التي اعتضدت وتقوت أسانيدها، فبلغت الحجية لدى كثير من فقهائنا - رحمة الله عليهم - ومنها حديث «رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثة: عن النَّائمِ حتَّى يَسْتَيْقِظَ، وعن الصَّغِيرِ حتَّى يَحْتَلِمَ، وعن المجنون حتَّى يَعْقِلَ»، وهو حديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وغيره من أهل السنن، وأُختلف فيه ضعفا وقوة، وفي وقفه ورفعه، إلا أن هذا الحديث تلقته الأمة بالقبول من حيث صحته، وعملت به، حيث قال الإمام الترمذي - رحمه الله - «والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم». وقد نص ابن تيمية - رحمة الله عليه - على أن «أهل المعرفة اتفقوا على تلقيه بالقبول»، وهذه قاعدة استقرائية يعمل بها الفقهاء والمفتون، وهي أن هناك بعض الأحاديث فيها ضعف من حيث أسانيدها إما لاختلاف الجرح والتعديل في بعض رواتها، وإما لاختلاف في وقف الحديث أو رفعه، وإما لاختلاف واضطراب في أسانيد تلك الأحاديث. بيد أن الفقهاء والأصوليين والمفتين على اختلاف مذاهبهم تلقوا تلك الأحاديث بالقبول، وهذا المسار في قبول الأحاديث أغفلته كثير من جماعات التشدد والتطرف، ومن يُسمون أنفسهم «أهل الحديث»، ممن ليس لهم حظ في فهم معاني ومقاصد الفقه والفقهاء المستمدة من أصول الشريعة الإسلامية، والذين يزعمون التمسك بظواهر النصوص دون الغوص في أعماق الفقه، مما أوقعهم في إشكالية كبرى في تنزيل النصوص أو رد كثير من الأحاديث التي لا تتوافق مع ما روجوا له من فتاوى تتعلق بأحكام التكفير، وما يتعلق بإشكالية «الولاء والبراء»، ومفهوم «دار الإسلام» و«دار الكفر». لذا، فإن هذه القاعدة مهمة جدا في استصحابها عند قراءة النصوص التشريعية، والجمع بين الأدلة، والتوفيق بين متعارضها ودفع متناقضها، فلا مناص لطالب العلم والمعرفة من التمسك بها، كي ينحو بنفسه من الشذوذ في تتبع الأقوال، والشطط في فهم النصوص، وتنزيلها على الواقع. وعودا على إشكالية مناط التكليف وتعليقه بالبلوغ، فإننا نجد في حياتنا اليومية من أبنائنا وبناتنا الذين وصلوا إلى سن البلوغ، الذي تم ضبطه من قِبل أغلب الفقهاء بأن تبلغ الفتاة الحيض، وأن تكون لدى الشاب القدرة على الإنزال، بيد أن ذلك الضبط لا يتناسب مع ما نلمسه من أولئك الأبناء في عدم قدرتهم على تمييز الأمور، وقلة معرفتهم وخبرتهم بأمور الحياة، فلا يمكن لفتى أو فتاة التمييز مثلا عندما يعرض أمر من الأمور الكبرى، التي يُفترض أن يتحملها الرجل العاقل البالغ المدرك الأمور، والواعي لما يجري من حوله مثل الزواج مثلا، فهذا الأمر وهو - الزواج - قرار مصيري، وهو من القرارات الكبرى التي تُغير مجرى حياة كل إنسان، بل إن هذا الوثاق الغليظ هو في حقيقته يتعلق بتلك النفس البشرية التي تطلب السكن والإستكنان والاطمئنان والرحمة. وذلك القرار المصيري، وهو الزواج، لا يمكن تعليقه مثلا فقط بمجرد أن تبلغ تلك الفتاة المحيض، وذلك لأن بلوغها المحيض ليس علامة ولا أمارة على النضج والوعي، وإدراكها أهوال وخطوب هذه الحياة، وليس البلوغ أمرا ظاهرا للقدرة على المضي بسفينة الحياة الزوجية إلى بر الأمان، وتخطي كل عقبة كؤود، وهذا مثال من أمثلة إشكالية أن البلوغ هو مناط للتكليف، وذلك أن مسألة إشكاليات تزويج الصغار والصغيرات هي في حقيقتها نتيجة وثمرة هذه الإشكالية، التي نُريد أن نجعل منها حديثا لحراك فكري وعلمي وثقافي، علَّ أصحاب الأمر والنهي أن ينتبهوا لهذه الإشكالية، كي يتم علاجها، وإحكام كل مخرجات المشكلة التي يمكن أن تنشأ من جعل مناط التكليف هو البلوغ فقط دون مراعاة الظروف الزمانية والمكانية، ودون الأخذ بعين الاعتبار تغير وتشكل وتبدل البيئات الثقافية، لأن الفقه الإسلامي يزخر بالأقوال والتعليلات والمقاصد التي يمكن أن تكون فيها المرونة الكافية، كي يتم تعديل كل إشكالية تعلقت بقول فقهي تمت إناطته بما يُشكل فهمه، وبما يناقض العقل والمنطق السوي.