كما تنوس الأرجوحة في حركتها الدائبة إلى الأمام وإلى الخلف، إلى الأعلى ثم الأسفل ارتطاماً بفراغ لا يبعث على البهجة بقدر ما يفتح نافورةً تندلع من ثقوب الألم.. هكذا يفعل باتريك زوسكند مع بطله في "الكونتراباص" الصّادرة عن دار الجمل (بيروت ـ 2011) بترجمة كاميران حوج.

يخلو العمل من الإشارة إلى نوعه التصنيفي فيما إذا كان رواية قصيرة (78 صفحة) أو مسرحية مونودراما من فصل واحد، والأقرب في تقديري هو الثاني لدواعٍ فنيّة نكتشفها أثناء قراءة الكتاب. عازف شاب لآلة الكونتراباص بأوركسترا الدولة الألمانية، في الخامسة والثلاثين، يقيم وحيداً في غرفة لا نسمع فيها غير صوت الموسيقى وصوت تداعياته عن الآلة وعن حياته. الكونتراباص ضمن عديد الآلات في الفرقة الموسيقية منظوراً أمام الجمهور في مشهد مسرحي. العازف أيضاً في مشهد مسرحي مماثل حيث الغرفة؛ المنصّة التي يتوجّه منها إلى جمهور معلوم، (القراء) بدلالة ضمير الخطاب الجمعي المصاحب لأقوال العازف في أغلب صفحات الكتاب. هذه المماثلة تستدعي السؤال عن الخيط الواصل بين العازف وآلته.

يبني العازف في البداية صورة متعالية لآلته الوتريّة، تنزلها منزلة الأصل ومنبع الشرارة التي تتوّلد عنها صناعة الموسيقى. الآلات الأخرى لا شيء دونها. لولاها لما حصل الأثر الكبير، يصدر من فرقة كاملة. هي الأساس والجوهر الذي لا يمكن تجاوزه أو إهماله (الأوركسترا يمكنها أن تستغني عن المايسترو، لكنها لا تستغني عن الكونتراباص).. (الكونتراباص أهم الآلات الموسيقية في الأوركسترا على الإطلاق).. (الكونتراباص هي الآلة الموسيقية المركزية في الأوركسترا). ويؤسس لهذه الفكرة حين يجعلها الأم والأرض؛ في صورة جامعة للولادة والتخليق ومنح الوجود وأسبابه (... الأرض الأم، التي نضرب كلنا جذورنا فيها، منبع القوة، الذي تتغذّى منه كل فكرة موسيقيّة). عالم السُّرّة الذي يصل الموجودات الموسيقية بالحياة، يلحّ العازف على تأكيده. يذهب ثم يعود إليه مراراً، وتنزلق منه كلمة تماهي بينه وبين آلته (هذا أنا، أعني الباص. الكونتراباص).

تلك الفكرة ـ مركزيّة الآلة ـ لا يصمد عليها. ينتابه الشكّ حيالها، سرعان ما يصمها بأنها "آلة مرعبة" وأنها "تنكة زبالة" ويتناول هيئتها بمزيدٍ من السخرية والتبخيس بما ينسف أصالة الكونتراباص، في الشكل أو المكان الذي يشغله على مسارح العروض الموسيقية، (منظره منظر امرأة عجوز سمينة. الوركان متهدلان، الخصر منتهٍ تماماً، عال كثيراً وغير ضيّق كفاية).. (الكونتراباص هي أكثر الآلات الموسيقية دناءة وفظاظة وغلاظة التي تمّ اكتشافها في التاريخ). ويمضي في هجومه لبيان الهامشيّة التي عليها آلته عندما تتأخر في المشهد أمام الجمهور، حيث لا يراها أحد (وفي آخر الأخير الكونتراباص. ليس وراءه إلا الطبل. لكن هذا نظريّا فقط، لأن عازف الطبل في حدّ ذاته وحيد ويأخذ مكاناً عالياً، بحيث يراه الجميع). الهامش الذي يقبع فيه العازف بعيداً عن الأنظار بآلة لا تنزع إلى الحضور الفردي؛ فتلفت البصر وتستدرّ الإعجاب، يصيّره كتلةً من الغضب، والنقمة تتنفّس برغبات التدمير التي تريد أن تمحو الكونتراباص محواً (أقصى ما أريده أحياناً هو أن أرميه في الزبالة. أن أقصّه بالمنشار، أهرسه هرساً، أقصقصه وأطحنه وأجعله غباراً ورماداً في المدفأة).

إذا، هي نقمة وإرادة انتقام من آلةٍ جعلت عازفها قريناً للصوت الخافت المحجوب. الحضور الناقص. المكانة المختلسة. "الإنسان" المطعون في وجوده، فلا يُؤبه لشأنه، ولا يشير إليه أحد.الكونتراباص فعلَ كل هذا، طمره في الظل فملأت الخيبة صدره. العازف يتنكّر لآلته، ويريد أن يخرج من عالم المغفوليّة والمجهوليّة، ومن هرميّة المجتمع الموسيقي الذي أبعده إلى الهامش وفي الأسفل. هل يكون مخرجه عبر "سارة"؛ المغنية الصغيرة في الفرقة التي يظن أنها لا تعرفه ولم يلفتها رغم الوجود المشترك والصحبة في الحفلات. يوقن أنه لن يصل إليها عبر مهنته عازفاً. عليه أن يقوم بفعلة متهورة تجلب انتباهها الذي لم توفّره له موسيقاه.. عليه أن يخرّب "حفلة اليوم" ويقطع سيرورة العرض ويصرخ باسمها (وبجميع الأحوال سيحدث شيء ما. ستنقلب حياتي 180 درجة. ستكون نقطة حاسمة في سيرة حياتي، وحتى لو لم أحصل بهذه الصرخة على سارة، فلن تنساني طوال عمرها (...) وهذا وحده يستحق الصراخ باسمها). هل حدثت "الصرخة"؟ .. تُترَك معلّقة على مواتاة الجرأة، ربما تمنحه العتق من ربقة التراتبيّة وينجو من التلف والنسيان وحيداً في غرفته يجترّ الاضطراب والغياب في خدر الكحول.