تكاد فكرة الصورية أن تكون في كل جزئيات وتفاصيل حياتنا الخاصة والعامة، بل إنها موجودة في المؤسسات والشركات والقطاعات العامة والخاصة. هذه الفكرة، التي يُطلق عليها «الصورية»، هي في حقيقتها يمكن أن نشبهها بالمادة الزئبقية، فما أن يظن المرء أنه يقبض عليها إلا ويجدها قد ذهبت، ولا يجد لها أثرا. والفكرة الصورية لها أسس وقواعد ومبادئ ونظريات، وعليها صدرت أحكام شرعية وقانونية، وأُقرت مبادئ قضائية. وقد أعد الباحثون والدارسون عن فكرة الصورية دراسات أكاديمية في تخصصات عدة، بل وفي فروع تلك التخصصات، وعلى سبيل المثال لا الحصر الصورية في العقود، والصورية في الزواج، والصورية في الفقه، والصورية في القانون، والصورية في القرارات الإدارية، والصورية في أحكام القضاء، والتصرفات الصورية، وتوزيع الأرباح الصورية في الشركات، وأحكامه في الفقه والنظام، فمجالات الصورية واسعة جدا، ويستطيع المتأمل في جزئياتها أن يتنبأ بأن تكون مادة دراسية مستقلة في الجامعات والأكاديميات، وذلك لما للصورية من أهمية بالغة في حياتنا وتصرفاتنا، ولما لها من علاقة وثيقة بخبايا النفس البشرية وعلائقها، التي تُنتج سلوكيات وتصرفات تظهر للعلن. مفهوم «الصورية» بعبارات بسطية وسهلة، وبعيدا عن تعقيدات أصول الحدود والمنطق لاشتراطات التعريفات، أنه إبراز أمر وإظهاره وإرادة أمر آخر، وإخفائه لغرض مقصود بعينه، بغض النظرعن الحسن والقبح في الغرض المراد من تحقيق الصورية فيه. لا تكاد تعاريف كل الكتب عن فكرة الصورية تخرج عن هذا المعنى، ولا أتفق مع من يُقرر أن الفقهاء السابقين لم يتحدثوا عن الصورية، بل إن فروعا كثيرة من كتب الفقهاء في جميع المذاهب زاخرة ووافرة بفكرة الصورية وتأصيلاتها، وإن لم تكن باللفظ نفسه، بيد أن الفقهاء كانوا كثيرا ما يُقررون ويقعدون ويؤصلون أفكارا ومعاني ذات معزى ومقصد عميق، غير أن إطلاق المسميات على تلك المعاني تختلف من زمن لآخر. لذا، فإن الفقهاء قد تحدثوا عن كثير من فروع الصورية وجزئياتها تحت باب الحيل، وهذه من إشكاليات عصرنا الحاضر أن بعض الباحثين والدارسين ممن ليس له عمق نظر في مؤلفات الفقهاء والأصوليين، ومن يتعجل في إظهار الدراسات والبحوث، تجده ينكر كثيرا مما أصله الفقهاء الأقدمون - رحمة الله عليهم - بحجة أن المسمى الذي في ذهنية ذلك الباحث لم يجده في كتب الفقهاء والأصوليين، فيتزبب قبل أن يتحصرم، ويرمى العلماء أصحاب القدم الراسخة في علوم الشرعية والعربية بالقصور في البحث والرؤية، ولا يعلم ذلك الدارس البسيط أن أولئك الأعلام قد امتزجت العلوم في أذهانهم، فأصبحوا مكتبات بشرية متنقلة، تحمل بين جنباتها علوما راسخة، مع فهم المعاني واستخراج التأصيلات وزبد المعارف والعلوم.

وهذه الإشكالية لها علاقة وثيقة بالنفس التي تظهر صورا خاوية المعنى، وليست لديها أسس راسخة تدعم تلك الصورة الخارجية التي تم إبرازها للعلن. إن كثيرا من التصرفات والسلوكيات التي تمارسها النفس البشرية لهي تتردد بين أن تكون سلوكيات وتصرفات شكلية صورية، ليس لها غرض إلا إظهار صورة وانطباع ظاهري، لإخفاء غرض ومعنى وصورة داخلية وباطنية حقيقية، كي تستتر وتختفى من خلال ذلك السلوك الصوري الذي ظهر للعلن، ليبدو للناظرين أنه سلوك سوي ومستقيم، بيد أنه في حقيقته وباطنه ما يُناقض ذلك الظاهر والشكل الصوري. ومثل هذا التصرف الصوري النابع من تلك النفس البشرية مشاهد وملموس في حياتنا المعاصرة، ويتمثل ذلك في تصرفات الغش والتدليس والكذب والتغرير (من الغرر) والخيانة والإضرار بالآخرين، ويجمع ذلك كلمة «الفساد»، سواء كان فسادا أخلاقيا أم فسادا ماليا أم فسادا اقتصاديا أم فسادا رياضيا أم فسادا في المؤسسات والشركات العامة والخاصة، فتلك التصرفات التي تنبع من الفعل الصوري أو التصرف الصوري هي المؤسس الحقيقي لمصطلح «الفساد». لذا، فإن مصطلح «الفساد» هو النتيجة الحتمية لكل التصرفات الصورية التي أغراضها ممنوعة شرعا وقانونا، فما نُعانيه من إشكاليات الفساد هو في حقيقته تستر واختفاء بتلك الأفعال والتصرفات المذمومة والقبيحة، والمخالفة لأحكام الشريعة والقانون، قد مارسها من يُظهر أنه يعمل عملا صالحا، بيد أنه قد ولغ في ماء آسنٍ، ولم يعد يميز بين الحسن والقبيح إلا ما وجد فيه مصلحته الشخصية الضيقة، فيُقدمها ويطّرح كل مصالح الآخرين، وعلى رأسها مصلحة وطن بأكمله، لإرضاء نفس ذات شبق وتعلق بالقبح والدونية، لم تُراع ذمةً ولا ضميرًا ولا دينًا ولا خلقًا رفيعًا. تلك إشكاليات الصورية العميقة لا تتوقف عند الشكلية في العقود، وبحث صحة التصرفات وبطلانها، لأن الصورية المتخيلة في التصرفات والعقود والالتزامات، التي يتم بحثها من حيث التكييفات الشرعية والقانونية والقضائية، هي في حقيقتها تبحث عن الأمر الحقيقي والذاتي والباطني لحقائق الأمور ومقاصدها وأغراضها الذاتية، وتلك المقاصد هي المحرك الأساس لكل ما يدور من حولنا من تصرفات لكل البشرية، وهذا ما قرره الفقهاء والأصوليون في قاعدة أن «العبرة بالمعاني والمقاصد لا بالألفاظ والمباني»، وما لم يكن مقصودا بعينه فهو ليس تصرفا مكتمل الأركان والعناصر كي تتم المحاسبة عليه، إلا ما كان في دائرة الخطأ المحدث للأضرار بالنسبة للغير، فهذا باب آخر من أبواب المسئولية التقصيرية، بيد أن الصورية بمفهومها الواسع والشامل تتخطى العقود والتصرفات، لتبرز في السلوكيات والأخلاقيات الظاهرة والباطنة للنفس البشرية، فما كان من تلك الأخلاق والسلوكيات يتناقض مع حقيقة تلك النفس الإنسانية، فإن ثمة اعوجاجا ينبغي إصلاحه، لأن النفوس البشرية في مجتمعنا المعاصر إن لم تكن متسقة ومتوافقة في تصرفاتها وسلوكياتها وأخلاقياتها الظاهرة والباطنة، فإن كل ما يُزعم من تطور وتقدم لن يؤتي أُكله، بل سوف يكون مقدمة لإشكاليات معقدة، توقف كل تقدم وتطور منشود في مجتمعاتنا المعاصرة.