فالطريقة التي تنقل بها المنظمات رسائلها وصورتها للجمهور لها تأثير هائل على نجاحها، لذلك، تحتاج المنظمات إلى اختيار المسؤولين عن اتصالاتها بعناية، وتعمل العديد من المهن على تحقيق هذا النجاح من خلال هذه القنوات، وفي مقدمتها العلاقات العامة.
لكن العلاقات العامة -تلك المهنة الحديثة التي لا يتخطى عمرها قرنا من الزمن- بدأ اسمها يختفي خلال العقدين الماضيين، فبعدما تطورت ممارستها بشكل جذري، كما تطور تعريفها، وبدأت في الانتشار في الجامعات والوظائف الإدارية، فوجئنا بتغير مسماها، وإن شئت فقل باختطاف هذه المهنة الوليدة، فعالميا أصبحت الآن يطلق عليها «الاتصال الإستراتيجي»، وهي تسمية يكثر استخدامها في الأوساط الأكاديمية، وفي بعض المنظمات يطلق عليها الاتصال المؤسسي.
وقد وجدت إحدى الدراسات التي أجريت على 43 دولة أوروبية تفضيل مسمى «الاتصال المؤسسي» في الأعمال التجارية، و«الاتصال الإستراتيجي» في المؤسسات غير الربحية والحكومة على العلاقات العامة، يليهما في التفضيل مصطلح «إدارة الاتصال»، قد تكون هذه التسميات المختلفة انعكاسا لمجال ديناميكي ومعقد يحتاج باستمرار إلى التطور وإعادة التعريف، ولكنها تخلق ارتباكا بين الأكاديميين والممارسين وفي سوق العمل.
فمثلا قد يتردد الطلاب في اختيار البرامج الدراسية والتخصصات، لأن التسميات والأسماء المتعددة للبرامج -التي تبدو متطابقة في الموضوعات والمقررات- يمكن أن تكون مربكة، وكثيرا ما تردني تساؤلات حول ماهية مجال عمل الاتصال الإستراتيجي، وهل هو مجال العلاقات العامة نفسه، وما الفرق بينهما، وهل تعترف الخدمة المدنية بهذا المسمى الجديد.
وقد لا يجد الخريج عملا في القطاع الخاص، لأن المدراء لا يعرفون ماهية الاتصال الإستراتيجي، فهم يعرفون فقط العلاقات العامة. والأدهى أن بعض الأكاديميين يعتقد أن الاتصال المؤسسي أو الإستراتيجي فرع عن العلاقات العامة، وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال آملا أن يسهم في التمييز بين هذه المسميات المختلفة، وإن كان يبدو أن الاتصالين المؤسسي والإستراتيجي ابني عمومة، إلا أن الاتصال المؤسسي ترجع أصوله لمجالي الإدارة والتسويق، التي طالما حاولت ضم العلاقات العامة لمزيجها، أما الاتصال الإستراتيجي فنشأ من رحم دراسات الاتصال والإعلام.
فوفقا لاتجاه دولي بدأت العلاقات العامة مطلع القرن الحادي والعشرين مرحلة جديدة لبست فيها ثوب «الاتصال الإستراتيجي» الذي أصبح الآن مجالًا تعليميًا وبحثيًا متناميًا في الجامعات والكليات حول العالم، حيث تم تغيير أسماء البرامج الدراسية والدورات التدريبية الخاصة بالعلاقات العامة والاتصال بشكل عام في العديد من الجامعات إلى الاتصال الإستراتيجي، وقد أحصيت في هذا الصدد ما لا يقل عن 80 برنامجا دراسيا حول العالم تحمل الاسم الجديد.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو موقف العالم العربي من هذه التغيير؟ عربيا كانت المملكة العربية السعودية صاحبة السبق -بل الوحيدة- في هذا المضمار، وكان قسم الإعلام بجامعة الملك فيصل أسبق أقسام وكليات الإعلام في إنشاء برنامجين للاتصال الإستراتيجي، أحدهما على مستوى البكالوريوس، والآخر على مستوى الماجستير، مواكبا بذلك أحدث الاتجاهات العالمية في تدريس العلاقات العامة والبحث فيها، كما خطا خطوات سباقة نحو تأسيس جمعية علمية للاتصال الإستراتيجي لم تخرج بعد للنور، وإلى الآن لا يوجد برنامج دراسي للاتصال الإستراتيجي في الجامعات العربية سوى في جامعة الملك خالد، أما بقية الدول العربية فلا يوجد فيها برنامج واحد يحمل المسمى الجديد في حدود اطلاعي، ولعل السبب في تجنب أقسام وكليات الإعلام في الوطن العربي استحداث برنامج للاتصال الإستراتيجي، هو الخوف من عدم معرفة سوق العمل بالمسمى الجديد، حتى لا يعوق الخريجون عن العمل، ومن ثم ترجئ الكثير من الأقسام التغيير إلى أن ينتشر المصطلح الجديد، إلا أن تجربة المملكة العربية السعودية بينت أن ذلك ليس مبررا، فالخدمة المدنية وهي الجهة المعنية بالتوظيف الحكومي أدرجت تخصص الاتصال الإستراتيجي ضمن وظائفها بمجرد تخرج أول دفعة.
ولكن ما هو سبب تغيير المسمى؟ لا شك أن هناك نفورا من العلاقات العامة بسبب بعض الممارسات الخادعة والدعائية، لكن سبب تغيير المسمى ليس النفور من العلاقات العامة، وإنما لكون الاتصال الإستراتيجي مفهوما أوسع وأكثر شمولية من العلاقات العامة، حيث يدمج مجالات مختلفة من الاتصال، ويوجهها نحو تحقيق الهدف، كما أن مجالات العمل في «الاتصال» أوسع من العلاقات العامة، حيث تضم من يكتبون الأخبار أو يرغبون في نشر المعلومات للجمهور (العلاقات العامة، والمعلومات العامة، والتسويق، الإعلان)، ومن يقدمون الأخبار في الوسائل التقليدية والرقمية (الصحفيون، والمؤثرون، ومنتجو الفيديوهات... إلخ).
فالاتصال الإستراتيجي يتضمن وظائف في مجالات الإعلان والتسويق والعلاقات العامة والإعلام الرقمي، وكلها تتضمن استخدام اللغة، والصور والفيديو، لتوصيل رسالة المنظمة داخليًا وخارجيًا. ولا شك أن اتساع هذا المصطلح –وكثرة المهن التي تندرج تحت مظلته- أحد العوامل التي تميز الاتصال الإستراتيجي على العلاقات العامة حاليا، وتسهم في جذب الدارسين حتى للبرامج التدريبية، لا سيما مع ظهور مصطلحات مناظرة مثل الإعلامي الشامل.
كما أن هناك طرقا جديدة وكثيرة الآن لوصول المؤسسات إلى الجمهور أكثر من ذي قبل، منها التقليدي والرقمي، فحتى لا يكون هناك أكثر من جهة اتصالية في المؤسسة تعمل بشكل منفصل (العلاقات العامة-التسويق الرقمي-الإعلان التقليدي-الاتصال الإداري.... إلخ)، وحتى يتم التنسيق بين كل أشكال الاتصال عبر مختلف الوسائل بشكل هادف، لا سيما في ظل التعقيد المتزايد للمجتمع الرقمي العالمي الذي تحدي قدرة المنظمات على تقديم محتوى متوازن ومؤثر وهادف، إلى جانب البعد المادي والمتمثل في تقليل النفقات، لا سيما في الشركات متعددة الجنسيات، وهو سبب ظهور مصطلح الاتصال المؤسسي نفسه.
في رأيي يرجع استخدام مصطلح الاتصال الإستراتيجي أو المؤسسي إلى الاعتقاد الخاطئ بأنه مصطلح أوسع من مصطلح العلاقات العامة، التي يُنظر إليها على أنها علاقات إعلامية فقط، مع أن العلاقات العامة نفسها قد تبنت المنظور الإستراتيجي.
وعرَّف أكبر كيان عالمي للعلاقات العامة -جمعية العلاقات العامة الأمريكية-العلاقات العامة على أنها «عملية اتصال إستراتيجي تبني علاقات منفعة متبادلة بين المنظمات وجماهيرها»، وذلك في عام 2012، بعد استفتاء أجرته على ما يقرب من 10.000 عضو يتوزعون بين ممارس وأكاديمي.
أيا كانت الأسباب، فقد جاءت فكرة دمج الاتصالات المتنوعة في بوتقة واحدة هي الاتصال الإستراتيجي، لتضم عددًا من المسارات الوظيفية المختلفة، وتعمل على استخدام الاتصال لتحقيق هدف ما، وهو ما يختلف عن العمل في مهن مثل الصحافة وغيرها من الأعمال التي تتضمن الكتابة والاتصال دون وجود هدف إستراتيجي دفع إليه العمل، فالصحفي مثلا يكتب الواقعة كما حدثت بهدف الإخبار، في المقابل يعمل ممارسو العلاقات العامة في مجال واحد محدد من الاتصال الإستراتيجي هو: الحفاظ على علاقة إيجابية بين صاحب العمل والمجتمع. يفعلون ذلك من خلال استخدام الاتصال الموجه للجمهور، البيانات الصحفية والمناسبات الخاصة والخطب ووسائل التواصل الاجتماعي، وعقد مؤتمرات صحفية منتظمة والتفاعل مع وسائل الإعلام للإجابة على الأسئلة وشرح السياسات والإجراءات.
وبغض النظر عن المؤسسة أو العمل أو الكيان غير الربحي أو المؤسسة الحكومية أو الخاصة التي يعملون بها، يقوم ممارسو العلاقات العامة بالترويج للأخبار الإيجابية قدر الإمكان، مع الحد من الضرر الناجم عن الأخبار أو الأحداث السلبية.
ويوجد قدر كبير من التداخل بين الاتصال الإستراتيجي والعلاقات العامة، حيث إن الأخيرة باتت مجموعة فرعية من الأولى. كل منهما يعتمد على الاتصال لوضع المنظمات في مكانة أفضل، ويتطلب مجموعة مهارات مماثلة: اتصال شفهي ومكتوب مؤثر، ومهارات شخصية قوية، والقدرة على البحث والتخطيط والإدارة، والقدرة على العمل بشكل جيد في فرق مع مختلف المهنيين.
وعلى الرغم من كون المجالين وثيقي الصلة، إلا أن هناك العديد من الفروق الرئيسية بين الاتصال الإستراتيجي والعلاقات العامة تتعلق هذه الاختلافات إلى حد كبير بنطاق الاتصال المعني والطرق النموذجية التي ينشر بها الممارسون المعلومات، من حيث النطاق: من المرجح أن يجد متخصصو الاتصال الإستراتيجي أنفسهم يعملون عبر إدارات متعددة لتطوير خطة اتصالية للمؤسسة.
يمكن أن يختلف عملهم اليومي، وقد تتغير مسؤولياتهم في المنظمة بناءً على احتياجات الاتصال الخاصة بها، أما الذين يركزون بشكل محدد على العلاقات العامة فمن المرجح أن يكون لديهم تركيز أضيق، ينصب اهتمامهم الأساسي على كيفية نظر الجمهور إلى المنظمة، وكيفية ضمان بناء علاقات إيجابية من خلال الرسائل الداخلية والخارجية ويستفيد الأفراد المهتمون بممارسة مهنة الاتصال الإستراتيجي من دراسة إدارة القضايا والأزمات، والاتصالات التسويقية، والحملات الإعلامية الرقمية، وكلها ضرورية للعمل في مجال الاتصال الإستراتيجي.
وفي المقابل برز مسمى آخر هو الاتصال المؤسسي، والذي يستخدم بدلا من العلاقات العامة في العديد من منظمات العمل العالمية والعربية، وينظر إليه على أنه تطوير لمفهوم العلاقات العامة. ويستمد الاتصال المؤسسي جذوره من الكلمة اللاتينية (corpus)، والتي تعني «الجسم كله».
ويفترض الاتصال المؤسسي أنه من الممكن ومن المرغوب فيه أن تتواصل المنظمة من خلال كيان أو حدة واحدة، مدعيا وجود منظور إستراتيجي وإداري غائب عن العلاقات العامة يقود عملية الترابط المتبادل بين أداء المنظمة وهوية وسمعة الشركة من ناحية، كما يؤدي لتنسيق الاتصالات من ناحية أخرى، كما يرى منظروه أنه فقط القادر على دمج العلاقات العامة والتسويق والاتصال التنظيمي ضمن منظور إداري إستراتيجي واحد، وفي النهاية تؤكد هذه التسميات المختلفة أهمية الوظيفة الاتصالية في العصر الحاضر، وأن مهنة مستقلة تعدى عمرها قرنا من الزمان تتوارى لتكون مجالا فرعيا ضمن مجال ناشئ شامل، وسواء اختلفنا أو اتفقنا مع هذه التغييرات فلابد أن نكون على دراية بهذه المسميات وأبعادها.