ترسخت الأسس العقلية والعلمية والعملية أنه لا يتطور علم إلا من خلال تطور أدواته ووسائله، ولا يتطور طالب ذلك العلم إلا من خلال تتبع تطور تلك الوسائل والأدوات، وفي تخصصي الذي أعمل في مجاله وهو التخصص القانوني والشرعي. هناك عدة وسائل وأدوات تطورت ولا تزال تخترق طريقها للتطور، بيد أن أغلب ما ألمسه لدينا من تطورات في المجالات القانونية فيما عدا التشريعات الصادرة من المؤسسات التشريعية، وذلك لأنها متعلقة بأصل تشكيل طريقة الحكم المتعلقة غالبًا بالدساتير (جمع دستور)، فإن التطور الجاري في المجال القانوني هو تقني بحت، وإن كثيرًا من التطورات المتعلقة بالقانون والأنظمة في بلدنا تنزع إلى النواحي التقنية البحتة ولا تتعلق بالمجال الفكري المتعلق بالفهم، الذي يتم استمداده من أصل الأنظمة والقوانين وتاريخها وفلسفتها وكيفية تنزيل نصوصها على واقع متغير ومتجدد. ولقد وجدتُ لدى العالم المتطور وخصوصًا في الولايات المتحدة الأمريكية نزعة ومسار لتطوير أدوات الأنظمة والقوانين من خلال استيعاب كثير من الأنظمة والقوانين، في قوالب روائية وأدبية تُشكل قمة في الإبداع الروائي والقصصي التشويقي والمحبب للنفس التي عادة ما تكل وتمل وتتهرب من قسوة وجمود القوالب القانونية في الأنظمة واللوائح، وأرقام المواد، والتراكيب اللغوية المركزة والحصينة والمحكمة، التي لا مجال فيها لشيء من اللغة الأدبية والبلاغية التي تُطرب لها النفس الإنسانية. ذلك التطور يجده المتخصص وغير المتخصص في القانون، في روايات كُتاب جندوا أوقاتهم وخيالهم لتجسيد كثير من التخصصات القانونية، في شكل أحداث ووقائع تتنزل عليها الأحكام القانونية في كثير من القوانين مثل القانون الجنائي، وطرق محاكمة المتهمين بالقضايا الجنائية، وكيفية تطبيق قانون المرافعات الجنائي، وكيفية فهم المبادئ الدستورية في المجال الجنائي. وهذا يتمثل في روايات كاتب أمريكي من ولاية كارولينا الشمالية وهو جون قريشام (John Grisham)، مثل رواية (Tim to kill). وقد تم تجسيد هذه الرواية في فيلم أمريكي بطولة الممثل توم كروز في عام 1992. وهناك الروايات التي تُجسد جشع الإنسان وإرادته لهضم حقوق الورثة وأكل الأموال بغير حق في مسائل الوصية، وقد جسد هذه العلاقات القانونية المشتبهة برواية (The Testament)، حيث إن رجلًا مسنًا يملك عدة مليارات من الدولارات، وعقارات شتى في جميع أنحاء ولاية تكساس، وهو من كبار التجار، كتب وصيته ثم انتحر بقذف نفسه من أعلى طابق في عمارته التي تملكها شركته، وكانت وصيته لحفيدتها التي ذهبت إلى الزهد في الدنيا ورحلت كي تكون داعية إصلاحية للتبشير بالمسيحية في أمريكا اللاتينية (missionary)، وهي طريقة لا يزال معمولًا بها، ويتم دفع مليارات الدولارات من أجل هذه الدعوات التبشيرية. وهكذا تدور أحداث الرواية بين البحث عن هذه الوريثة، وبين الطعن في الوصية من قبل الورثة، بشكل مشوق وتصوير أدبي بديع، بلغة سهلة وفصول مترابطة يلحق بعضها بعضًا، فلا تكاد تبدأ في أول فصل حتى تجد نفسك قد استغرقت واندمجت في كامل خيوط وحبكة الرواية، حتى تُنهيها، برؤية فنية وقانونية مفهومة ومبسطة. بل إن هذا الكاتب الروائي يُناقش أحكامًا قضائية بطريقة قصصية مشوقة، ومن خلالها يمكن للقارئ أن يستوعب تلك الأحكام القضائية استيعابًا يفوق قدرته الاستيعابية لو أنه حصل على ذلك الحكم القضائي من موقع المحكمة التي أصدرته، وهذا ما تتميز به المحاكم الأمريكية في تطورها، أنك تجد الحكم بكل صياغاته وحججه بعد أن يُصدره القاضي، وتستطيع تنزيله وقراءته والاستفادة منه !!.
كذلك الروايات والقصص القانونية الأمريكية، تُعالج مواضيع في الأعمال والمال، وقوانين الاستغلال المالي بعرض أحداث ووقائع الاستغلال من خلال قوانين الأسهم والشركات، ومن خلال قانون منع الابتزاز في رواية (The Racketeer)، فيحبك المؤلف أحداث تلك القصة على شكل عصابات ترتكب كل شيء من أجل الابتزاز، وخصوصًا ابتزاز الشهود وموظفي النيابات العامة والقضاة، من خلال قصص وأحداث حقيقية، بيد أنها تكون قريبة من النفس عند قراءتها لأنها كُتبت بأسلوب مبدع، ومن خلالها يفهم طالب المعرفة خصوصًا في القانون مصطلحات ومعارف شتى عن ذلك القانون الذي يجعله أصلًا كي تدور حوله أحداث القصة والرواية. وكذلك تطرقت الروايات القانونية في رواية (Camino Winds) فقد استعرض المؤلف كيفيات استغلال شريحة اجتماعية ضعيفة مغلوبة على أمرها، وهي شريحة المسنين في المجتمع الأمريكي، وعمليات الاحتيال التي تمارسها دور الرعاية لتكديس الثروات الطائلة، وعدم تورعها عن ارتكاب شتى الأساليب لتحقيق أهدافها، وذلك بمعزل عن أي وازع أخلاقي أو رادع قانوني. وعالجت الروايات القانونية مسألة التعويضات وقانون الضرر في رواية جسد فيها المؤلف محاميًا سماه (The king of the tort) ملك الضرر أو المحامي الذي ملك فهم قوانين الضرر والتعويض، وقضايا التعويض والإضرار من أعقد المسائل، وقد أسست القوانين الأنجلوسكسونية كل طرق ومبادئ التعويض من خلال تبني قواعد وأسس ومبادئ رادعة لكل الشركات والمؤسسات والأفراد الذين تثبت مسؤوليتهم عن إحداث الأضرار ثبوتًا لا شك فيه، فيُلزمهم القضاء الأمريكي بما تنصه القوانين من تعويضات، ثم أنشأت المحاكم الأمريكية تعويضًا من نوع آخر وهو تعويض عقابي يُسمى (Punitive Damage)، وخصوصًا في مجال الأخطاء الطبية وهي قضايا مشهورة بمسمى (Medical Malpractice). تلك القضايا يكون سردها بشكل قصصي مقبول ومحبب للنفس، فتخفف من وطأة المصطلحات والنظريات القانونية التي تكون عادة مضمنة في تلك الأحكام القضائية. وكانت هناك فكرة إنشاء مشروع تاريخي من خلال دراسة كثير من الجرائم التي وقعت، ويتم تحليلها ودراستها من قبل متخصصين، لتفكيك تلك الجرائم وتصنيفها، والاستفادة من أحداثها من خلال طرح روايات وإنتاج أفلام وبرامج تثقيفية، تستفيد منها كل الجهات في وطننا المعطاء بيد أن ذلك المشروع لم يخرج إلى العلن.