عم سراج شخصية (بلدي) تجمع بين شهامة أولاد الحارة ووضوحهم ومسارعتهم إلى النجدة وبين "مكر" الحرفيين ومداراتهم لأمزجة عملائهم مع ظرافة المهرجين التي تزينها طلاوة الحديث وسرعة البديهة والتعليقات المفاجئة و"النكت" الدالة مع لسان سليط لا يتردد في لسع من يقترب من اكتشاف (بكشه) على جمهور مقهاه، يغري عملاء قهوته المتهالكة (الأنتيكة) بكل الوسائل، وقد علمته الحياة ومعايشة أخلاط من الناس، يختلفون بالطبائع والثقافات والمستويات المعيشية، أن يلبس لكل حال لبوسها: يحسن الحديث مع عمال النظافة عن تضخم الزبالة وكثرة المكبوب فيها من أغذية صالحة لإطعام أسر تبيت على الجوع.. ويدير النقاش المتعاطف مع عمال البناء عن حرارة الشمس وظلم الشركات التي تأخذ المليارات وتعطي الهللات.. وإذا رأى صاحب ثوب نظيف وملامح تدل على سعة الرزق هاشاً باشاً مرحباً ببعض الجمل والألفاظ التي حفظها عن ظهر قلب ومختاراً أنظف الأركان من المقهى المتهالك. ومن آيات مهارة عم سراج وقدرته الفذة على تسويق مقهاه أنه استطاع أن يقنع صديقنا جميل فارسي ـ شيخ الجوهرجية في جدة ـ صاحب القلم اللاذع والقفشات النارية الذي تعلم من مهنته صقل "المعاني الجارحة" وتغليفها في قماش ناعم من النكت البريئة!!!.. عم سراج أقنع هذا "الجوهرجي" ليكون من زبائن المقهى غير الدائمين، وما إن يراه، قادما، حتى يصيح: "جاكم الخفيف"... أهلاً أبو زامل فينك يا راجل؟.. وفي الأيام الأخيرة يبدو أن عم سراج يمر بحالة غريبة اختلط فيها المزاج الرائق مع هموم تجديد كراسي المقهى المتداعية ووجع إزالة صدأ "ليات" الشيش وتلميع بطة الشاي التي علتها ملوحة مياه الآبار المخلوطة بمياه التحلية، وكان في حاجة إلى من يبثه شكواه وينفس الضغط الذي يشعر به دون أن يتخلى عن روح "التسويق" التي تتلبسه في كل حين.. ووجد في لقائه بصديقه جميل فارسي فرصة يستعرض فيها "أحلام" تطوير المقهى.. ولأن فارسي جواهرجي ولديه ثقافة فنية ومطلع على أشهر أعمال الرسامين والموسيقيين اضطر عم سراج أن يعصر ذاكرته لعلها تسعفه بأسماء الأعمال الموسيقية للمشاهير ولوحات كبار الرسامين العالميين،. ولم يتردد في أن يسد نقص الذاكرة المخرومة بقصة مختلقة أو اسم مبتكر يكمل به "اللوحة" فإذا تذكر اسم بتهوفن أنشأ له سيمفونية عاشرة لم تخطر له على بال.
ولأن جميل يعمل في الأحجار الكريمة ذات الأثمان الغالية فكان لا بد أن يخاطبه عم سراج بما يعرف من الأرقام فأخذ يستعرض تكاليف مشروع تطوير وتحسين أوضاع المقهى ودخل في "أحلام" المليارات: مئات الملايين لتجديد الكراسي وآلاف الملايين لتسليك ليات الشيش وعشرات الملايين لشراء اللوحات الفنية.. وكانت الأرقام كبيرة ومغرية فاستمر عم سراج (يسرح) بالأخ جميل، لكن (الجوهرجي) صاح: يا عم سراج بتسرح بي ولا أيه؟.. ما هذه الأرقام؟.. وهنا قفز "العفريت" من القمقم: إش معنى أنا؟ ليش بتصدق الصحف وتكذبني أنا؟.
وسؤال "المقهى الحلم" هو الذي كتب هذه السطور بعد أن ظلت فكرة "كامنة" تراودني من وقت إلى آخر، أصرفها أو يصرفها عارض لا سلطة لي عليه.. وآخر مثيراتها مقال كتبه الزميل خالد السليمان حول عقد "تسخين" مياه جامعة الأميرة نورة، وكيف كاد يتورط في نقد الجامعة اعتماداً على تقرير صحفي لولا أنه راجع الموضوع ودقق في الأرقام وتواريخها واكتشف "الخطأ" الذي وقعت فيه الصحيفة الناقلة نتيجة لعدم دقة الترجمة أو الاستسهال.
وبعيداً عن "عم سراج" وما تثيره أرقامه من علامات استفهام، وأسباب مغالاته فيها فإن المسألة تستحق وقفة من الصحفيين أنفسهم.. فمن مهام الصحافة إخبار القارئ وتزويده بالمعلومات الصحيحة والبحث في خلفياتها لتوضيح ما غمض عليه ومساعدته على كشف من يحاول أن "يدلس" عليه في الحقائق مهما تكن بواعثه أو دوافعه.. فهل تقوم صحافتنا بهذه المهمة؟.. وهل تدرب صحفيوها على أداء مهامهم بالصورة المهنية المقنعة؟. لن "أتورط" في تقديم إجابة مطلقة وسأترك الباب مفتوحا لمن أراد أن يضيء زاوية أو مساحة من أرض هذا السؤال. وحتى لا أتهرب من محاولة الإجابة سأضرب مثلا بقضية وطنية واحدة تهم قطاعات المجتمع كله وننظر هل ساعدت الصحافة القارئ على تكوين معلومات حقيقية عن هذه القضية؟.. القضية هي التوظيف الذي لا يكاد بيت سعودي إلا ويعنى به.. حاولت، مرة، أكون "علميا" وموضوعيا فتابعت ما نشرته إحدى الصحف المحلية لمدة شهر كامل عن الوظائف التي توفرها المشاريع الكبرى فوجدتها تجاوزت المليون(!!).
فتساءلت إذا كانت هذه الأرقام حقيقية فلماذا تزداد أعداد العاطلين عن العمل بين السعوديين؟. ثم من أين نشأت الأخطاء في قراءة هذه الأرقام؟. لماذا "تغالط" الصحيفة قراءها بأرقام مأخوذة من تقارير أو خطط خمسية منزوعة من سياقها الذي وردت فيه؟ إن استخدام الإحصاءات والأرقام في غير سياقها الأصلي ينقلها من وظيفة "الإعلام" إلى "التضليل" فبعض المشاريع الكبرى ـ مثل المدن الصناعية والاقتصادية ـ تورد بعض الأرقام حول الوظائف التي يمكن أن توفرها إذا اكتملت بنيتها وتم تشغيل المصانع الموضوعة في الخطة بالتزامن مع خطط الجامعات ومراكز التدريب في تخريج الكوادر المدربة.. وحين تأتي الوسيلة الإعلامية ـ غير المهنية لأسباب كثيرة ـ فتتجاهل هذه العناصر المهمة وتعطي أرقاماً توهم القارئ أو المشاهد أو المجتمع بأن المشروع سيوفر هذا العدد من الوظائف فإنها تكون قد أساءت لمشاريع التنمية وزادت من شكوك المواطنين في ما يقوله المسؤولون عن تلك المشاريع.
وإذا تأملت الأسباب والدواعي التي تدفع الوسيلة الإعلامية إلى هذا النوع من "الفبركة" تجدها متعددة، وتختلف باختلاف الوسيلة والقائمين عليها: فبعضها يعود إلى منهج "الدعاية الفجة" الذي تسلكه بعض الوسائل اعتقاداً منها أن ذلك يخدم المسؤول واعتمادا على أن الناس لا تقرأ وإذا قرأت لا تدقق وبعضها يعود إلى انعدام أو ضعف المهنية الصارمة التي تقدر وعي الناس ومعرفتهم وتحترم وظيفتها في حين يرجع بعضها إلى "التسيب" الذي لا يعاقب "المدلس" على تعمده أو تساهله. وقد تكون هناك أسباب أخرى منها أن بعض الصحف "بلا ذاكرة" أي ما تنشره اليوم أو قبل أسبوع لا ترجع إليه ولا تتذكره، لهذا يبدو مسارها في الأخبار والتعليقات والتحليلات لا يربطها رابط ولا ينظمها اتجاه يمكن قراءة توجهها من خلاله.