لطالما شاهدنا في مقاطع فيديو عديدة بعض التجاوزات والتحرّشات التي تقع غالبًا أثناء اكتظاظ الجماهير في الحفلاتِ الغنائية المفتوحة، أو في أماكنِ ازدحام وتجمُّع الجماهير الأخرى، غير مُقتصرٍ ذلك على بقعة بعينها فقط، بل إنه يحدث في أنحاءٍ مختلفةٍ من العالم.

وبما أننا في السعودية جزء من العالم؛ فإنه بِكُلّ تأكيدٍ يحدث لدينا في الأماكن المفتوحة أثناء الاكتظاظ الجماهيري في الحفلاتِ الغنائية والاحتفالات الأخرى، بعض التجاوزات والتحرّشات الفردية هنا وهناك التي لا ترتقي للتعاطي معها كونها ظاهرة، لكنَّ تداول بعض مقاطع الفيديو لها مؤخرا عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ يفرض علينا الحديث عنها، ومحاولة النظر إليها من خلال وجهاتٍ مختلفة. قبل كل شيءٍ، يجب التأكيد على أن الجهات الرسمية المُنظِّمة لمثل تلك الفعاليات والجهات الداعمة لها قائمة بدورها الرقابي والعقابي على أكمل وجهٍ.

تاليا، لا بد أن نتساءل حين نشاهد مقطع فيديو يظهر فيه عشرات الشبان يمرّون بجوار شابة أو أكثر، ولا يتجرأ أحد منهم على الإتيان بأي فعلٍ مسيءٍ تجاه إحداهنَّ، باستثناء واحدٍ منهم، هنا نتساءل قبل أيّ تعليقٍ: لماذا هذا الشخص بالذات من بين العشرات هو مَن قام بالتحرّش والتجاوز؟ لماذا مرَّ الآخرون مرور الكرام؟ .


وبالمقابل، حينما ترى مقطع فيديو يَظْهَرُ فيه أحد الشبان مدافعًا عن شابةٍ قد تجمهر من حولها عشرات الشبان الذين ليسوا جميعا لديهم الجرأة على فعل ما يسيء لها في هذه اللحظة، فإن هذا أيضا يجعلنا نتساءل من زاوية مختلفة:

لماذا وقف هذا الشاب مدافعا عن الشابة ولم ينضم للآخرين أو على الأقل يتجاهل الحالة بكل بساطة؟، ما المفهوم الذي يرتكز صلبا وراء موقفه ذاك؟، وما المفاهيم التي افتقد لها الآخرون قبالته؟.

لا يمكن استشراف الأجوبة، ومحاولة فهم ما نراه في بعض مقاطع الفيديو، دون الأخذ بالاعتبار انْتِماء جميع الذين ظهروا في مقاطع الفيديو إلى البيئة الخارجية العامة نفسها بما فيها من مرجعياتٍ وديناميكياتٍ أخلاقيةٍ وقِيَم وتعليم؛ الأمر الذي لم يمنع وجود تباين بينهم على مستوى التطبيق من شخصٍ لآخر، أو من شخصٍ لآخرين.

ومن هنا، من هذه النقطة المهمة، قد نذهب -في محاولة فهم ما يجري- إلى مردّ ذلك التباين؛ حيث سياقات أبعد غير البيئة الخارجية العامة ومضامينها.

وفي أعقاب ذلك، قد نتجاوز أيضا -إضافة إلى سياق البيئة العامة- عن سياقَي المكان واللحظة؛ لوجود حالاتِ تجاوزٍ وتحرّشٍ مرصودةٍ سابقا في أماكنَ ولحظاتٍ مغايرة أخرى، منها حتى الأماكن الدينية واللحظات التعبدية؛ وهذا سبب ربما يكفي لتحييدهما إلى حدّ ما، وعدم ربط التجاوزات بهما مباشرة، مما يقودنا نحو سياق آخر، بإمكاننا -برأيي- إسقاط ذلك التباين عليه، وتفسيره عبر إرجاعه إلى البيئة الداخلية الخاصّة بِكُلّ شخصٍ منهم!.

إن كان هنالك مسؤولية أُولى فإنها تقع على عاتق البيئة الداخلية الخاصة؛ إذ إنها المعنية بالأساس بخلقِ وتعزيزِ المفاهيم لدى الفرد منذ صِغَره وطوال فتراتٍ مهمةٍ من تشكُّله الذهني، وبالتالي سلوكه.

وبالوقت عينه، هي مسؤولة أيضا عن التباس المفاهيم في أذهان البعض، لا سيما مفهوم العقوبة الذي لا يتم تراكم الشعور به وترسّخ معناه في الأذهان، إلا من خلال الالتزام بتطبيق محفِّز أو إزالة محفِّز؛ للحدّ من سلوك ما، في عملية متواصلة بداية من المراحل المبكرة في حياة الفرد.

بمعنى أن ما يفتقد إليه البعض على وجه التحديد أنهم على الأرجح لم يخضعوا في حياتهم لعقوبةٍ جادةٍ مِن قِبَلِ والديهم، وإذا ما حدث ذلك، فإن آلية التنفيذ تقترن بمرونة بالغة لدرجةٍ معها تتلاشى قيمة العقوبة في أذهانهم.

وهذا كفيل بجعلهم -إلى جانبِ مسألة عدم التوازنِ في الحصول على ما يريدون، أو حرمانهم مما يريدون- معرَّضين إلى حدٍّ كبيرٍ للتعامل بطريقة خاطئة تُمليها عليهم أذهانهم ذات المفاهيم الضبابية، خاصّةً إذا ما وَجَدُوا أنفسهم في المكان المكتظّ واللحظة المثيرة.

من ناحية أخرى؛ هنالك أمر آخر لا يمكن إغفاله أيضا في هذا الاتجاه؛ ألا وهو إضافة إلى مفهوم العقوبة الملتبس، ثمة مفاهيم عند البعض تدفعهم تحت تأثير ظروف معينة والازدواج بين الرغبة والاستنكار؛ لاستحلال التجاوز في حق كل من لا يتوافق مع النمط السائد، والتصرف بطريقة خاطئة دائما تجاه الفتاة -على سبيل المثال- التي وُجِدَتْ قياسا لتلك المفاهيم في المكان الخطأ، أو ظهرتْ بالشكل الخطأ!.

وليست الفتاة فحسب المعرَّضة لذلك، بل حتى إذا ما رُصِدَ شَابّ آخر يظهر عليه ما يتعارض ومفاهيم هؤلاء المُستحِلّين؛ فإنهم من المحتملِ -ما دام الذي أمامهم قد صُنِّف خارجا عن السائد، وما دام غير محميٍّ بالنمطية والتشابه- أن يستحِلوا لأنفسهم ما لا يحقّ لهم شرعًا وقانونا.

أخيرا، إذا كان يقال دائمًا: «من أمن العقوبة أساء الأدب»، فما بالك بمن أمن العقوبة منذ نعومة أظافره؟!.