حينما قرأ كتاب «حميميّات باردة: تشكيل الرأسماليّة العاطفيّة» أوّل مرّة، كان له وقع في قلبه، ورأى فيه حقلًا غير مطروق نسبيًّا في العالم العربيّ؛ ألا وهو حقل «سوسيولوجيا العواطف»، أو العلوم الاجتماعيّة المتعلّقة بتحوّلات خبراتنا في العالم العربيّ حيال مفاهيم الحبّ والارتباط والحميميّة والزواج والأسرة بفعل الحداثة الرأسماليّة التي شكّلت حميميّاتنا، أيًّا تكن. ما حدا به إلى أن يقترحه للترجمة إلى العربيّة، في ظل حقبة بات فيها العالم العربيّ أسيرًا لـ «لكَهنة» التنمية الذاتيّة وعرّابي العلاج النفسيّ الذي صعّدته منصّات التواصل الاجتماعيّ بصورة مرضيّة.

نهاية الحبّ

هكذا يلخص المترجم الشاب كريم محمد تجربته في ترجمة كتاب «إيفا إيلوز»، لافتًا إلى: أن هناك حاجة للتعاطي مع مسائل الحميميّة والعواطف والعلاقات البشريّة وتحولاتها ضمن إطار العلوم الاجتماعيّة والنفسيّة لفهم ما يحصل، والحدّ من المخرّفين الذين يتاجرون في آلام الآخرين.

الكتاب أصله ثلاث محاضرات، تستكشف إيلوز - المديرة الأكاديميّة في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية (EHESS) في باريس - من خلالها غياب قراءة العلوم الاجتماعيّة من منظور يستكشف دور العواطف والخبرات الشخصيّة التي ما عادت قابلةً للترجمة في عالم حداثيّ إلّا ضمن سرديّات منمطة وموحّدة تُعرَّف على أنّها الحميميّة، والحبّ، والعاطفة. ويوضح كريم: من هنا كانت الانطلاقة لنقل هذا الكتاب -الصغير نسبيًّا- إلى العربيّة، سيّما وأنّ كتابها المهمّ الآخر «لماذا يجرح الحبّ؟ تعليل سوسيولوجيّ» سبق ترجمة هذا الكتاب بأشهر. فشعرتُ بأنّ الفرصة مواتية. ولعلّ هذا باب لترجمة مزيدٍ من أعمالها، سيّما عملها «نهاية الحبّ».

هيمنة الإنترنت

ربما يحيلنا كتاب حميميات إلى كتاب ذائع في الثقافة العربية «طوق الحمامة» للإمام ابن حزم، وهنا يتوقف كريم موضحًا الفارق بين التجربتين: تجربة ابن حزم ما عادت اليوم تُستعاد وتُقرأ لأنّ أفكارنا الحديثة عن الحب والمشاعر والعواطف والحميميّة ليست متباينة عنها بمعنى أنّها مختلفة فقط، وإنّما بمعنى أنّ لها «عالَم حياةٍ» مختلفً، وأضحت تُترجَم ضمن مفاهيم لا يمكن بحال نقلها بعبارات ابن حزم أو غيره ممّن تطرقوا لمواضيع كهذه. وبالتالي، نحن نتعاطى مع خبرة بشريّة مغايرة، لها مفاهيم، ولها «سوق» رأسماليّ تنتشرُ فيه ومن خلال لغته أيضًا، وضمن لغة مستمدّة من علم النفس وعلوم الإدارة التي -كما تشير اللوز بذكاء في كتابها- هي غيّرت حتى مفهوم الحميميّة من ذوات القرن الثامن عشر عن ذوات القرن العشرين والحادي والعشرين المصحوب بتصاعد الإنترنت وهيمنته على العواطف وقولبتها ضمن أنساق موحّدة للجميع.

الشبكات الرومانسيّة

يعالج الكتاب بصورة أساسيّة كيف تحوّلت الحميميات من مفهومها التقليديّ القائم على الانجذاب والفعل إلى ما تسميه إيفا اللوز بـ«بزوغ الإنسان العاطفيّ» الحديث ذي الحميميات الباردة. يقع الكتاب في ثلاثة فصول، وهو بالأصل ثلاثة محاضرات ألقتها المؤلفة في ألمانيا. وتسلط الضوء على دور علم النفس -سيّما محاضرات فرويد المسماة محاضرات كلارك- في تشكيل العاطفيّة الحديثة والحميمية السويّة من غير السويّة. كما إنّها ركزت على دور الشركة ورؤوساء العمل في ضبط الذوات من خلال العلوم الإدارية التي أصبحت تهتم بعواطف وشخصيات والأوضاع النفسيّة للموظّفين من أجل إنتاجيّة أفضل. ويلفتنا كريم إلى أن اللوز مدججة بأسلحة من العلوم الاجتماعيّة المستمدّة تحديدًا من المدرسة النقديّة (مدرسة فرانكفورت) لتفكيك هذه الذات. وفي المحاضرة الأخيرة، تدرس ما تسمّيه «الشبكات الرومانسيّة»، أي تلك المواقع الإنترنتيّة في بدايات الألفيّة التي كانت تحصل عليها المواعدة والتعارف وكيف أنّ هذه المواقع أعادت تشكيل الذات ضمن حميميّة مختلفة مع الآخر (الذي يُتعرَّف عليه من خلال الكتابة أولًا)، حيث تسبق المعرفة الانجذابَ؛ ففي حين كان المرءُ سابقًا ينجذبُ إلى الآخر ثمّ يعرفه، فقد قُلبت الآية. فهي تدرس آثار كلّ ذلك لتشكيل «الحميميات الباردة».

رأسماليّة اقتصاديّة

يلفت كريم محمد إلى أنّ ايلوز كانت قد شنّت حملة معرفيّة على سرديّات علاج الذات والتنمية الذاتيّة وأدبيّات النصيحة التي انتشرت في الفضاء الأمريكيّ أصلًا، وكيف أنّ هذه السرديات العلاجيّة قامت بإجبار نفسانيّ ومعرفيّ للمتعالج على إضفاء طابع تروماتيكيّ على طفولته، وترحيل مشاكله إلى الطفولة... الأسرة... العائلة... وإخلاء طرف الذات المتعالجة من أيّ مسؤوليّة فيما يتعلّق بحياتها البائسة. وهذا درسٌ مهمّ كثيرًا لنا في العالم العربيّ -كما أشرت سابقً- بسبب الانتشار الساحق لهذه الثقافة العلاجيّة.

وهنا يؤكد كريم: بالتالي، الدرس الأساسيّ هو أنّه دائمًا ما ترتبط الرأسماليّة بالسوق والسلع والاقتصاد وتبني الأنظمة السياسيّة لها. تحاجج اللوز بأنّه مثلما هناك رأسماليّة «اقتصاديّة» فهناك أيضًا رأسماليّة عاطفيّة مرافقة لأختها الاقتصاديّة والسياسيّة والإدرايّة والنفسيّة؛ وهي كامنة في صلب العلوم الاجتماعيّة الحديثة.

خادمٌ لسيّدين

كان العملُ على الترجمة سلسًا نظرًا لطبيعة أنّ الكتابة ثلاث محاضرات، فهناك نوع من التدرّج في الحجاج والمعالجة يُريح قارئ الكتابة، بالإضافة إلى لغة الكاتبة الجميلة، والتنوع بين الحقول والتخصصات، وهو أمرٌ يجذبني كثيرًا؛ وكأنّ الكتاب تطواف معرفيّ حول تيمة واحدة.


لكن، وكقدرنا كمترجمين، فنحن كما يقول الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور: «المترجم خادمٌ لسيّدين». ودائمًا، تلك «الخدمة» غير مرضيّة. وكما ترى في عبارة ريكور، لا أسياد وعبيد في حقل اللغة، وإنّما أسياد فقط، أي صراع ونزاع: كيف يمكن أن تجعل كتابًا كُتب بلغةٍ أخرى أن يتكلّم من خلال العربيّة؟ والعربيّة قادرة دائمًا. وهي خدمة مرهقة. ولذا، عندما أنتهي من ترجمة عملٍ ما، يكون أملي منصبًا أن أكون قد أرضيتُ السيّدين! يا لها من خدمةٍ!.

كريم محمد

*باحث ومترجم مصريّ

* نشر أوراقًا ومقالات مترجمة على مركز نماء، ومنصة معنى، وإضاءات

* يهتمّ بالعلوم الاجتماعيّة والفلسفة والحركات الإسلاميّة

* ترجم كتابين:

1 - «الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ»

2 - «حميميات باردة: تشكيل الرأسماليّة العاطفيّة»