كنتُ بصحبة بعض الطلبة الدارسين في إحدى المراحل الدراسية، وكانوا يتدارسون مادة اللغة الإنجليزية، وطلبوا مني أن أتحاور معهم في كيفية فهم هذه المادة من خلال مناهجهم الدراسية، فقلتُ لهم إن هناك قواعد منهجية للعلم والمعرفة في كل علم من العلوم وفن من فنون المعرفة، ولا يمكن أن تختلف هذه القواعد المنهجية باختلاف تلك العلوم والتخصصات، بل إنها متوافقة ومتسقة مع بعضها البعض، وذلك لأن العقول الإنسانية الواعية للعلم والمعرفة لا يمكن أن تختلف في تأصيل كيفية المسارات والقواعد المنهجية لتحصيل العلوم والمعرفة، فقد تختلف الطرق والوسائل للوصول إلى تلك العلوم والمعارف، بيد أن القواعد والأصول المنهجية متحدة ومتسقة لدى تلك العقول الإنسانية الواعية. من تلك القواعد المنهجية للعلم معرفة أصول وقواعد ومصطلحات ذلك العلم المراد دراسته، فما لم تكن لدى الطالب المعرفة بالقواعد والأصول، فلن يتمكن من فك شفرات ذلك العلم، وسوف تصبح عليه المسائل المترابطة مع بعضها البعض وكأنها طلاسم وألغاز، لا يفهم منها أي شيء، بل إن البعض يتوقف عند عدم القدرة على قراءة ألفاظ وكلمات ومصطلحات ذلك العلم، فضلا عن عدم فهم الأصول والمبادئ والأسس القائم عليها ذلك العلم، وإن طريق معرفة أصول وقواعد كل علم هو معرفة ألفاظه ومصطلحاته. فبادرتُ أولئك الأبناء بمعرفة بعض الأفعال باللغة الإنجليزية، كي أعرف مدى قدرتهم على التمكن من ذلك العلم، إذ طرحت سؤالا عن معنى الفعل «write»، فلم يستطع أن يُجيبني أي طالب، فذُهلت وصُعقت، وبدأت أُحاور نفسي عن ماهية أسباب عدم قدرة أولئك الطلاب على معرفة معنى ذلك الفعل، فبدا ليّ أن هناك عدة أسباب، قد امتزجت واشتركت وتعاضدت فيما بينها، وشكلت قوة ذات نفوذ قوي لعدم القدرة على متابعة معرفة العلوم. من تلك الأسباب عدم القراءة في العلم نفسه، ولو كانت قراءة بطيئة ومتأنية وقليلة، بيد أنها قراءة تتصف بالاستمرارية، وعدم التوقف في طلب المعرفة، لأن المعرفة وطلب العلم معين لا ينضب، والمعارف تجري كمياه البحار والأنهار ولا تتوقف، بل إن الإنسان هو الذي يتوقف عن طلب تلك المعارف، وهذه إشكالية الإشكاليات في عصرنا الحاضر. وذلك الموقف لم يكن بدعا من أولئك الطلاب الصغار، بل إن ذلك الموقف تكرر مع أكاديمي بلغ درجة «الأستاذية»، فعندما نال تلك الدرجة العلمية توقف عن القراءة وطلب المعرفة، اكتفاءً بما لديه، وأنه قد بلغ مرحلة التمكن المعرفي، وهذا هو الخلط الحقيقي في معرفة مفهوم «التمكن المعرفي»، فهذا المصطلح لا يمكن تحصيله بالحصول على أعلى الشهادات الأكاديمية، ما لم تقترن تلك الشهادات الأكاديمية بالإبحار والاستمرارية في القراءة ثم القراءة ثم القراءة، وهذا ما كان يُقرره ويُكرره على مسامعنا شيحنا العلامة اللغوي الدكتور محمد أبو موسى. وما التحصيل الأكاديمي إلا لبنة من لبنات المعرفة، وهي اللبنة الأولى للاندهاش من المعارف، فإذا وصل طالب المعرفة إلى مرحلة أنه إذا قرأ شيئا، ووجد فيه ما يدهشه وما يروعه، فهو قد بدأ يضع قدمه على طريق طلب العلم. أما إذا قرأ طالب المعرفة شيئا يُدهش، ويروع العقول الواعية، فلم يندهش، فهو لم يضع قدمه على سلم طريق المعرفة بعد، فهناك أسرار وخفايا في العلم لو لم تُعلم وتُدرس وتراجع، وتكرر القراءات والمراجعات، لما اكتشفت تلك الأسرار والمعارف، وهذا من أسرار العلم والمعرفة والثقافة التى لا يمكن تحصيلها إلا بإدمان القراءات والتعمق في الاطلاع، وهذا من عطاء رب العالمين للمتعلم عندما يصدق ويخلص حين يتعلم، فتلك تدقفات ربانية تسير بهم إلى دقائق وخفايا وأسرار في العلم لم يحصلوها من قبل من أول وهلة في التعلم، بل تدفقت بعد إطالة التأمل والنظر وإدمان القراءة. هذا المنهج في التحصيل العلمي لن يلمسه أي طالب دارس لأول وهلة، أو من يدرس من أجل أن يحصل على شهادة علمية ليعمل بها، فهذا التحصيل لن يُقدم أي تطور أو تنمية، ولن يستطيع صاحبه أن يكون لبنة بناء، بل سوف يكون شيئا آخر غير ذلك. ومن أسرار العلم والمعرفة وخفاياهما، التي قد يجدها طالب المعرفة عند قراءة مسألة في كتاب، ثم يجد تلك المسألة في كتاب آخر للمؤلف نفسه، أن هناك توسعا وتفصيلا أكثر مما ذُكر للمسألة في الكتاب الأول، وليس السبب في ذلك أن المسألة تمت كتابتها باختصار، بل لأن المؤلف عند كتابتها بالتفصيل قد وجد أسرارا وخفايا لم يكن وجدها عند كتابته تلك المسألة في أول الأمر، فعندما ازداد المؤلف علما وخبرة وقراءة، ازداد فهمه للمسألة، فاتضحت له أسرارا وخفايا لم تكن واضحة له من ذي قبل. هذا كله من أسرار العلم، ومن أسباب اختلافات كتابات العلماء للمسائل، وتباين تفاصيلهم للمسألة الواحدة في كتب متعددة. هذا كله تم ذكره حتى يعي طلاب العلم والمعرفة أن التمكن في العلم والمعرفة لا يأتي بجمع المعلومات السطيحة، وتلقي الكلمات والعبارات المختصرة، وسماع المقاطع التي لا تتجاوز مدتها الستين ثانية، فهذه ليست علوما ولا معارف. العلم له أصول ومناهج وقواعد، سار عليها العلماء في السابق والحاضر، ولم تختلف تلك القواعد والأصول في حقيقتها، ولا يمكن تحصيل المعرفة والعلم إلا بالسير على هذه الطريق، فلا يمكن لطالب علم يتحدث في المسائل العلمية والثقافية وهو لا يجيد علم النحو أو علوم العربية مثلا، ولا يمكن لمن يقف أمام القضاة وهو لا يعرف أصول الفقه، ولا يميز بين العام والخاص، ولا المطلق والمقيد، ولا يفهم ماهية الاستثناء، ولا يعرف أصول البينات، وكيف أصل الفقهاء هذه المسائل، وليس لمن يتحدث في علوم التفسير أن يكون خاوي المعرفة من علوم البلاغة وأسرارها، وعلوم النحو والصرف، فمثل هذا لا يجوز له أن يتكلم في هذا العلم الجليل.
لذا يجب أن نُلقن أبناءنا هذه القواعد والأصول، حتى لا تبقى العلوم والمعارف عرضة للتشويه والعبث بحجة أن كل إنسان له عقل، ويستطيع أن يميز، فهذا الفهم المعوج هو الإشكالية الكبرى في عصرنا الحاضر، فمن يقول هذا الكلام هو بحاجة إلى أن يُدَرّْس قواعد العلم والمعرفة من بداياتها، حتى يصل إلى مرحلةٍ يعلم أن ما كان قد قاله هو قلب لحقائق العلم والمعرفة، فكل عقل إنساني مهيأ للعلم والمعرفة، شرط أن يُحصل هذا العلم والمعرفة، فإذا لم يحصل تلك العلوم والمعارف، فسوف يبقى عقلا إنسانيا، لكنه دون معرفة أو علم.