نقطة الاختلاف الأساسية تكمن في حقيقة هذه «الازدواجية/ الثنائية» التي يفترض البعض وجودها بين تيارين فكريين يمثلان قطبي النهضة في تاريخ هذه الأمة قديما وحديثًا، وانطلاقًا من تصور وجود هذه الازدواجية الثنائية يحدث هذا الفصل/ الفجوة فى تصور خطاب كل تيار لخطاب التيار الآخر، إذ يتصور أصحاب «الحل الإسلامي» أن الخطاب الآخر يستبعد «الإسلام» بالضرورة استبعادًا كليا من مفهوماته ومن مضامين مصطلحاته، ومن هنا منبع القول بأن هذا الخطاب الآخر «وافد» تمامًا، هكذا يقسم الدكتور عمارة الخطابات إلى خطاب «أهل الموروث» وخطاب «أهل الوافد»، مع أن هذه القسمة ليست صحيحة على الأقل فيما يتصل بخطاب الدكتور عمارة ولا فيما يتصل بخطابي كما ظهر في المقالة التي يناقشها.
لا أريد أن أطيل في مناقشة نقطة الاختلاف الأساسي تلك، ويكفي أن أشير إلى أنها هي المسؤولة عن حالة «التوجس» وتوقع «سوء القصد» إذا تصدى للكتابة عن الإسلام والتراث الإسلامي باحث لا ينتمي بدرجة أو بأخرى إلى تيار «الحل الإسلامي». كلنا نعيش واقعًا تداخلت فيه على المستوى الثقافي والفكري عناصر الوافد والموروث وتفاعلت، بحيث يصبح الكلام عن «أهل الوافد»، و«أهل الموروث» هكذا على الإطلاق مسألة في حاجة إلى مراجعة، والدكتور عمارة نفسه يشكو من أنه صار «متهما» من «النصوصيين» المقلدين ومن «الظاهرية الجديدة» بأنه رائد الاتجاه العقلاني، وفي تقديري أن جزءًا من هذا الاتهام نابع من أرضية هذه «الفجوة» التي يحرص البعض على تأكيد وجودها بين «الوافد» و«الموروث»، ويعلم الدكتور عمارة أن بعض الكتابات تعتمد على تصور وجود هذه الفجوة لكي تنفى «الفلسفة الإسلامية» قاطبة من تاريخ «الفكر الإسلامي»، وذلك على أساس أنها فكر تسربت إليه عناصر «وافدة» من التراث السابق على الإسلام، ولا أظن الدكتور عمارة يوافق على هذا الرأي، أو يحبذ مثل هذه الكتابات.
لو أمكننا حسم هذه القضية ما زلنا حالة «التوجس» ودخلنا في حوار حقيقي عقلاني، على أرض الندية والتكافؤ المغايرة لأرضية «الاستبعاد» الحالية على أساس «وافد» و«موروث».
عن المقاصد الكلية الثلاث «العقل- الحرية- العدل» التي اقترحتها في مقالتي يتساءل الدكتور عمارة عن «المضامين» المختبئة داخل كل مصطلح من هذه المصطلحات، والتساؤلات تنبع جميعًا من «التوجس» وتصور «سوء القصد» النابعين من تلك الفجوة التي أشرت إليها في تصور الدكتور عمارة للوافد والموروث.
يتساءل الدكتور عمارة عن أى عقل وعن أي عقلانية نتحدث: عقلانية التنوير الغربي أم العقلانية المؤمنة؟! مع أن المقال شرح مفهوم «العقل» و«العقلانية» على أساس أن المقصود بهما «الحلم» الذي يمثل نقيضًا للجهل المتمثل في السلوك الجاهلي والقيم الجاهلية التي جاء المشروع الإسلامي مناقضًا لها، وهو مفهوم يبدأ من «ضبط» السلوك وفق قوانين «التعقل» و«التسامح»، لا وفق قوانين «العصبية»، لكن تساؤل الدكتور عمارة يتيح لنا الفرصة لمزيد من الشرح والتوضيح لأنه أثار مسالة القيمة المعرفية للعقل. يرى الدكتور عمارة أن «العقلانية المؤمنة» تجعل سبل المعرفة أربع هدايات، هي «العقل، والنقل، والتجربة الحسية، والوجدان» «فلا تقف فقط عند العقل والتجربة كما صنعت عقلانية التنوير الغربي: الوضعية والمادية»، وهو بذلك يجعل «العقل» إحدى وسائل المعرفة، بل ويبالغ إلى حد جعل «النقل» هو الذي يحكم «العقل» بعد أن يمون «النقل» مقروءًا به. ومن الواضح فعلًا أننا مع الدكتور عمارة إزاء مفهوم للعقل لا يكاد يتجاوز دلالته اللغوية قبل الإسلام، حيث هو «الإمساك» بالمعرفة والقبض عليها، كما يمسك «عقال» الدابة بها في مربطها، فلا تنفلت وتكون سائبة، هذا المفهوم النابع من الدلالة اللغوية طوره علماء الكلام فميزوا بين «العقل الضروري» و«العقل النظري» على أساس أن الأول يمثل البديهيات المشتركة بين الناس جميعًا، في حين أن الثاني هو النظر في الأدلة للوصول إلى المعرفة انتقالًا من المعلوم إلى المجهول، وهذه الأدلة هي «المحسوسات والتجارب والنقل»، التي يجب أن تمر جميعها من خلال «العقل» لكي تتحول إلى معرفة. إن الأدلة وحدها لا تمثل معرفة دون عمليات التحليل والتصنيف والتجريد، التي يقوم بها العقل المفكر، العقل إذن ليس «العضو المادي» وليس «الجوهر المجرد» وليس «الغريزة والملكة اللطيفة»، بل هو «الفعالية» الذهنية التي تحول الأدلة- حسية كانت أم نقلية أم تجارب وجدانية- إلى معرفة تعمق بدورها هذه الفعالية وتمنحها مزيدًا من الصقل والصفاء والحدة.
1994*
* باحث وأكاديمي مصري «1943 - 2010»