مرة أخرى.. هل بات ممكناً رؤية حاضر مختلف ينم عن ولادة زمن جديد يجعل الماضي خلف ظهورنا؟ وكيف؟ وما السبيل لتحقيق معجزة الانتقال من كان وأخواتها إلى محطة أخرى تؤمن حاجاتنا المطلبية وتعيد الاعتبار لجدلية التغيير والتغيّر والمُغايرة؟
وماذا يلزمنا القيام به لتأكيد المعنى الوجودي لحيواتنا واستعادة الثقة بقدرة مجتمعاتنا على إخصاب علاقتها بالزمن؟
في تقديرنا، أن إثارة أسئلة كهذه تمثل المدخل الطبيعي نحو إجابات واقعية لا تكتفي بنقد مظاهر الإعاقة قدر اشتغالها على استنهاض الهمم وإضاءة دروب البحث عن مخارج ممكنة للخلاص من إسار التخلف.! ثم لماذا الإلحاح في إثارة الهواجس ولماذا الإمعان في رفث الأسئلة؟
أترانا بدع الكائنات البشرية استعصاء على النهوض إلى الأمام أم أن في تجارب الشعوب – غير العربية والإسلامية – أمثلة قريبة من معاناتنا؟
لا غرو أن الذاكرة التاريخية تحفل بشواهد عديدة مرت بها بلدان واسعة من العالم اعتقل الماضي تطلعاتها ودهم الاستبداد والجهل شعوبها ونالتها كوارث كبرى كانت كفيلة بإجهاض ملكاتها، لكنها مع ذلك قررت مغادرة الماضي ووضعت أقدامها على تحدي الحاضر بوصفه بداية طريقها إلى المستقبل.
تحاملت اليابان على جراحها بعد هيروشيما ونيكازاكي وبدأت رحلة التحدي من تحت الأنقاض صعداً إلى الأعالي، ومثلها خرجت الصين إثر ثورة ماو تسي تونغ من حقبة الأفيون وسيادة الإقطاع إلى حاضر مختلف غداة تحولت معضلتها السكانية إلى قوة تضاهي الأساطير.. وعلى ذات الشاكلة اقتحمت الهند بعد ثورة غاندي تحدي الحاضر متغلبة على انقساماتها الدينية والإثنية التي حبستها في قمقم الماضي طويلاً. ولقد كان هذا شأن وامتحان معظم التحولات التاريخية التي تذاكت شرارتها على خلفية المحددات الثقافية للثورة الفرنسية ومشاعل الحرية والمساواة فيما عرف بانتفاضة الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن ضد التمييز العنصري ونظام الرق.
على نحو من هذه التحولات الحاسمة وبداياتها الجادة ذات الصلة بحاضر مختلف شقت الدول العملاقة طريقها إلى التفوق، بيد أن خيارات البداية في مسيرة تفوقها صارت فيما بعد ضمن سلة المهملات بعدما أعادت صياغة تطلعاتها بطريقة دراماتيكية باذخة التطور لكأنها ألحقت الحاضر بنفس حكمها على الماضي وجعلتهما معاً وراء ظهرها، وهي اليوم تنشغل عنهما بسباقات أخرى تعتمد الخيال العلمي ومنافسات الفضاء مما يجعلها تعيش المستقبل بوصفه واقع حاضرها الراهن.
أسأل إن كانت ثورات الربيع العربي عنيت ببحث فرص الانتقال من الشعارات الطافحة بالتوتر والاحتقان إلى ضفاف الأولويات المتاحة على صعيد آخر مغاير لما كان عليه حال الساحات قبل التئامها.
ليس في واقع الممارسة ما يشير أو يؤكد احتمالاً كهذا.. وغالباً فإن مجمل المؤشرات تدلل على اقتياد ساحات الربيع صوب البؤر القديمة وحشوها بديناميت الصراع على السلطة بما هي جذر التخلف ومكنة إنتاج المصالح غير المشروعة.. زد عليه كونها مشتل الأزمات السياسية التي تنضجها ثأرات القوى التقليدية وتستمد منها مشروعية محاصصاتها.
بيد أن الذي يجعل الحاضر مختلفاً ليس هذا النمط العاثر من التسويات، وليس انتصار طرف وهزيمة آخر، ولكنه يقاس بموازين القدرة على إحلال قيم جديدة تعنى بأحلام الإنسان وسعادة ورفاهية المجتمعات وتطور ونهوض الأوطان.
إننا في أحوال ومناسبات عديدة لا نستطيع إطالة التأمل في بعض المفارقات ما لم نمتلك القدر الكافي من الشجاعة على خسارة عقولنا!
وإلا فمن أين للعاقل أن يستقرئ معنى الصراع على السلطة – لذاتها – في بلد منهك القوى ، مدمر القدرات.. ألم يكن الأحرى بساحات الربيع وثوارها الشباب ومعهم الطلائع من قيادات الأحزاب المعارضة ونخب المجتمع المدني المبادرة لصياغة ضمانات الانتقال إلى حاضر مختلف من خلال التركيز على مبادئ الحكم الرشيد وتحديث المطالب الاعتيادية بطريقة توفر الأمان من جاذبية الارتداد إلى الخلف ومن احتمالات التواطؤ على إعادة إنتاج منظومة الامتيازات القديمة؟
أليس غريباً وباعث ريبة أيضاُ أن تتصدر السياسة اهتمامات القوى المتحدثة باسم الثورة ولا يكون للتعليم حيز ولو يسير في أجنداتها؟
وكيف يكون الحاضر مختلفاً طالما كان لدينا كل هذا الحرص على بقاء جينات الطغيان والحفاظ على فاكهة الخرافة في أذهان المجتمع؟
إن قضايا الحاضر وتحدياته ليست طلاسم يصعب قراءتها، بل هي من الوضوح بمكان لولا أن الماضي ما يزال يمنح امتيازاته لذات القوى التقليدية رغم كونها – بمنطق التحليل ومنطلقات الثورة – جزءاً من مستهدفات التغيير.
إن الحاضر المختلف يتحدد متى أنجزت قوى التغيير إراداتها الحية وفرضت واقعاً جديدا لا تختزله التسويات قدر ما تنظمه قواعد واضحة ترسخ المساواة وسيادة القانون وتقديم الحقوق على الواجبات واعتبار العدل أساس الحكم وضمان حق الاجتهاد والتنوع وحماية سلطة الشعب من المصادرة والاحتكار وسوء التصرف وإخضاع كل ذي سلطة للمساءلة كما يكون على هذه القواعد أن تعيد توزيع الثروة وتحمي المال العام من العبث وسيادة الأوطان من الارتهان. إنها قواعد إجماع تمجد قيم العمل وتعنى برسالة الاستخلاف على الأرض ولا تسمح لفرد أو حزب أو جماعة بامتهان العقل وتفصيل الدساتير والتشريعات على مقاس مصالحه.
لهذا تجدنا نؤكد على أهمية الشروع في تحديد قسمات الحاضر وتعيين الخيط الأبيض من الأسود، إذ بدون ذلك سوف نكرر صرخة الزعيم المصري سعد زغلول (مفيش فايدة ياصفية)!