ينطوي حديث جورج طرابيشي على جانب كبير من الأهمية، قد يلقي الضوء على جانب من أهم مسببات مرض «الشعوبية» الذي تحدثنا عنه في مقالات سابقة، وطرحنا حالة الكاتب العراقي علي الوردي بصفته مثالا واضحا ومباشرا لهذه الظاهرة. احتكاك المثقف العربي بتراث الثقافة الغربية كون لديه عواطف متضاربة تجاه ماضيه وتراثه، كون الثقافة الغربية لها طابع الهيمنة وقوة التأثير، والقدرة على منح المشروعية والحكم على الآخر بالدونية، وبالتالي القدرة على إعلان تفوقها ونشرها على نطاق واسع، بل وتقديم ثقافتها بصفتها النموذج والمعيار. وقد تأثر المثقف العربي بقوة تأثير هذه الثقافة، وأصبح يتأثر عاطفيا ونفسيا بإكراهاتها المتعددة وسلطتها الطاغية.
ولكي يتوافق المثقف العربي مع الواقع، ويتجاوز حالة الإحباط التي يمر بها، فإنه يلجأ لبعض الحيل النفسية، ومنها ما يعرف في مجال التحليل النفسي بـ«الإبدال» أو «الإزاحة النفسية»، وتعني باختصار إبدال هدف محل هدف آخر. ففي مجال الوظيفة، عندما يتعرض الرؤساء للمعاملة السيئة ممن هم أعلى منهم مرتبة، فإنهم يعاملون من هو دونهم بالطريقة نفسها، ومثل الطفل عندما يتعرض للعقاب من والديه، فإنه يكسر ألعابه أو ما يقع في متناول يده. إنها حالة من تفريغ الشحنات السالبة، وإخماد حالة الغضب في شخص أو شيء لا علاقة له بمصدر الحالة الانفعالية. لذا نجد أن المثقف العربي ذا النزعة الشعوبية عندما يطرح أفكاره حول التراث، فإن طرحه يتسم بالعدائية المفرطة، وكأنه ينتقم من تراثه، فالتراث - من وجهة نظره - هو المسؤول عن حقوق المرأة المسلوبة، والانحرافات الجنسية في المجتمع، وكل أعمال العنف والتطرف، وعن كل حالات التخلف والرجعية، لذلك يستغل كل ما يطرأ من أحداث سياسية أو يسنح من موضوعات ثقافية في توجيه سهام النقد وتجريم التراث بحجة النقد الهادف والبناء.
عندما تنشأ في الأوساط الثقافية والأدبية نزعة، فلا بد أن تنشأ معها بالضرورة نزعة مضادة، ويكون الحراك الثقافي ناتجا عن محصلة الصراع بين هاتين النزعتين، وفي العالم العربي نسمع كثيرا عن ثنائيات «التراث والحداثة» و«التقليد والمعاصرة» و«القديم والجديد»، التى في غالبها ليست إلا صراعا بين نزعتين: نزعة شعوبية ونزعة مضادة لها، والظهور بمظهر الحداثة أو التنوير إنما هو صورة سطحية خداعة، تلبس لباس الحداثة كسلاح للتخفي، تحارب به دون أن تكشف عن نفسها.
يقول إدوارد سعيد: «الإصرار الأيديولوجي لثقافة من الثقافات على إبراز تفوقها في عصرنا الذي تتحكم وسائل الإعلام في اتجاهاته حلت محله، في واقع الأمر، ثقافة تتصف معاييرها بالخفاء إلى درجة أصبحت هذه المعايير تعامل معها كما لو أنها معايير طبيعية وموضوعية وحقيقية». يوضح إدوار سعيد التأثير العميق والخفي للثقافة، وكلامه ينطبق على كل ثقافة مهيمنة، ولكنه يقصد هنا تأثير الثقافة الغربية تحديدا، وتأثيرها الطاغي في لاشعور المثقف العربي، إذ تولد عنه شكل من المشاعر المكبوتة. وعند علي الوردي، فإن النزعة الشعوبية قد تحررت من كبتها، وانتقلت من مستوى اللاشعور إلى مستوى الشعور، وصارت تعلن نفسها دون مواربة، حتى وصل به الحال إلى اتهامه التراث الأدبي والإنساني للعرب بأنه مصدر من مصادر الانحرافات الجنسية.
تغلغل تراث الثقافة الغربية السريع داخل الأوساط الثقافية والفكرية العربية، وأخذ طابعا هجوميا وصراعيا مع ما ينافسه من قيم ومعتقدات، وكانت لهذا الصراع أعراضه الجانبية على المثقف العربي الذي أصيب نتيجة هذا الصراع بحالة من العصاب الجماعي المزمن، تجلت أعراضه على شكل جلد مبرح للذات، ومحاولات حثيثة للانتقام من الذات عن طريق تشويه ماضيها، وتجريم تراثها، وما تحمله من قيم ومبادئ ومعتقدات، بصفتها السبب لكل ما يعانيه من ألم، وما يتعرض له من خيبات، وتسمى هذه الحالة في مجال التحليل النفسي «الإبدال» أو «الإزاحة النفسية»، كما ذكرنا آنفا.
أخذ المصابون بعصاب العداء للتراث، في الآونة الأخيرة، يسلكون سلوكا يبدو معقلنا ومعتدلا في ظاهره، إذ أخذوا يتحدثون عن القطيعة مع التراث وتجديد الخطاب وتحرير العقل، مع أن عبارة مثل تجديد الخطاب أو تحرير العقل تتطلب مجلدات ضخمة، لتوضيح مقاصدها المعقدة، فعندما يتحدث المثقف العربي اليوم عن القطيعة مع التراث أو تجديد الخطاب أو نقد التراث، فهو في الغالب يمارس سلوكا تعويضيا، حيث إن المثقف العربي يعيش صراعا داخليا بين نزعتين: نزعة شعوبية وأخرى مضادة لها.