«وكتاب نهج البلاغة جمعه الشريف الرضي رحمة الله عليه وهو عالم جليل من علماء العربية». ومن تلك المسائل التي شدتني لغرابتها عبادة الله في الأزل، وهذا قاله ابن أبي الحديد، عندما كان يرد على ابن الرواندي، وهو شارح آخر لكتاب نهج البلاغة عند قوله «الذي حق له العبادة في الأزل واستحقها حين خلق الخلق»، فأخذ ابن أبي الحديد يسترسل في تحرير مسألة عبادة الله في الأزل بين المتكلمين، وأنهم لا يطلقون على البارئ أنه «معبود في الأزل أو مستحق للعبادة في الأزل إلا بالقوة لا بالفعل». أخذني التأمل في هذه العبارات، وتلك المسائل التي هي حقاً علم يُشغل ويشحذ به الذهن، إلا أنها ليس لها أي عائد أو مصلحة في نظري، لا على عبادة الناس، ولا على واقع حياتهم المعيشية، ولن تؤثر حتى في دواخلهم النفسية إذا ما علم أو لم يعلم أن البارئ مستحق للعبادة في الأزل أم لا؟، أو هل أنه يستحق العبادة في الأزل بالقوة أم بالفعل. وعبارة وجود الشيء بالقوة لا بالفعل، تتردد كثيراً في كتب أهل العلم، ويتوجب على كل قارئ، أن يعلمها ويتقن معناها حتى لا تتسرب منه المعاني، والسياقات لكل نص هو قارئه، أو حتى أي قصة أو رواية هو مطلع عليها. فوجود الشيء بالفعل هو وجوده الحقيقي الواقعي، أما وجوده بالقوة هو إمكانية تحققه وعدم استحالة نفيه. هذا شرح بسيط لهذه العبارة حتى يمكننا فهم ما يرد علينا من مصطلحات وعبارات لأهل العلم، فنقف أمامها إما منكرين لها، وإما عاجزين عن فهم مراد ومعنى مصطلحات أهل العلم، الذين أرسوا لنا القواعد والأصول، وتمكنوا من العلوم دون أدوات للتقنية أو التطور العلمي الحديث، وهو شيء مذهل ومعجز لعقولنا، أن تُدرك مراميه، وكيفيات تحققه وحصوله في تلك الأزمنة، التي لم يتوفر فيها أي مما نراه أمامنا حاضراً، ولا يُحرك في ذواتنا أي غرابة، لأننا وجدنا تلك الأشياء وكأنها عادية الوجود في حياتنا المعاصرة. وتلك المسائل الغريبة التي ذكرها ابن أبي الحديد، أطلق عليها أهل العلم المعاصرون، أنها من الترف العلمي الذي ليس له أي تأثير على جهل الجاهل أو علم المتعلم. هذا الترف العلمي نراه بارزا أمامنا اليوم، في ظاهرة التجمعات الكبرى لمكتبات العالم في مكان واحد، كي تنشر ما تريد، وتُظهر مؤلفات لم نكن نحلم بوجودها أمامنا، ككتب ورقية ومجلدات حقيقية، وهذه الظاهرة من أعظم وأعمق الظواهر، التي ينبغي أن تؤثر في الأجيال الجديدة، وترتقي بالذائقة العلمية والمعرفية والثقافية، إلى محطات تجعلهم يصلون إلى الإدارك الحقيقي للمعرفة والوعي الصادق، لما تحمله العلوم والمعارف والثقافات، من إمكانات لرفع مستوى المجتمع في أخلاقياته وتصوراته، وضبط كثير من المسائل والإشكاليات التي تتسم بالضبابية. تلك الضبابية جعلت كل أحد له القدرة على الاستمداد منها وتنزيلها على واقعه، حتى أصبحت الفوضى العارمة والمستشرية في كل حركات وسكنات المجتمع، وهي الفوضى المعرفية التي تتصف بأنها قلبت موازين العلم والثقافة والمعرفة، حتى أصبحت المعرفة والثقافة الشكلية الخاوية من مقومات أصول المعرفة، هي الأصل وهي المطلوبة عند كل أحد، سواءً على مستوى المؤسسات الرسمية أو الخاصة، إلا ثلة قليلة متوارية لا يكاد يراها أحد. وهذه من إشكاليات هذا العصر الحقيقية، التي لم يُنظر إليها بعين فاحصة ورؤية مستقبلية، كي يتم ربطها بكل تقدم أو تطور مطلوب تحقيقه. أخشى من التلازم بين الترف العلمي وبين إقامة التجمعات الكبرى للمكتبات ودور النشر، لأن تلك التجمعات الكبرى لدور النشر والمكتبات، هي المتنفس الوحيد لكل قارئ وطالب علم ومعرفة، كي يُجدد عهده بما استجد، وبما تمت كتابته من بحوث ودراسات، ولكي يطلع على آخر ما تم من رؤى وتصورات ثقافية، سواءً في مجال تخصصه الرئيس، أو في مجالات المعرفة والثقافة المتنوعة. هذا المقصد والغرض الحسن، مطلوب ومرغب فيه من قبل من يُقيم تلك التجمعات الكبرى لدور النشر والمكتبات، أما الترف العلمي الذي أمتزج بترهات السوشل ميديا، والجري وراء الشهرة واكتساب المتابعين، فهو مصادم ومضاد لذلك الغرض، والمقصد الحسن والنبيل من إقامة تلك التجمعات الكبرى لدور النشر والمكتبات. وجه مصادمته ومناقضته لذلك الغرض، هوأن الترف العلمي الممتزج بسلبيات ظاهرة السوشيال ميديا، يؤدي إلى تحقق الضحالة المعرفية والشكلانية الثقافية، التي تظهر علينا في كل زمن ومكان في وقتنا الحاضر، فتنتشر الفوضى المعرفية وتتأسس اللخبطة الفكرية، وذلك يعمل على إزاحة ومسح كل قواعد المعرفة والحقائق التاريخية، وأصول المعاني والتفسير في مجالات عديدة. الفوضى المعرفية قد تهدم باباً من أبواب أصول الفقه، أو تُعدل وتحذف أحكاماً من أبواب الفقه، وما علم من ينشر تلك الفوضى المعرفية، أن العلوم كلها مترابطة، وممسك بعضها ببعض، إذا سقط منها علم اعترى بقيتها شحوب لا ريب فيه، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم «تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». فالعلوم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء.