نحن العرب قوم نعاني من البذخ في كل شيء، فبذخ القصور والمجوهرات والألبسة والخدم والحشم، لا يقارن ببذخ اللسان والتصرفات الاجتماعية التي لا نعرف فيها الوسط الذي قد أصبح باهتا، فكلمة غني أو فقير مثلاً، نحتار ما هي الكلمة التي بينهما، هل هي متوسط الحال أو ميسورها، أو زي الناس لا بأس أو حالته بالبلاء، ولذلك أصبح الوسط عند العرب فارطا؛ للاعتقاد أننا كعرب إما أغنياء أو فقراء، ولو أننا في الوسط، فإننا لا نرضى إلا أن نكون أغنياء، أو تدفعنا غريزة جلد الذات أن نميل إلى أننا فقراء.

وينطبق الحال على بذخ اللسان سواء في المدح الذي كثيرا ما يكون على غير سنع، وغالبا ما يكون في التطبيل لمسؤول أو البذخ في الذم أو في الإسقاط، كل ذلك تدفعنا أهواؤنا إليه، فأحدهم لا يهش ولا ينش، لكنه تخرج من جامعة بريطانية بعد عشر سنوات أخفق فيها عدة مرات؛ ولأنه ذو جاه عندما تأتي سيرته يقول المطبلون: «تبارك الله فلان فلته شوف كيف لما يتكلم الإنجليزية بطلاقة، وكأنه واحد من بلاد الفرنجة، بل ويتفوق عليهم وبالإنجليزية الفصحي لغة شكسبير، ولا ينقصه إلا البرنيطة ليتبرنط».

أما نظيره العلاني، والذي ما قد سمعناه في أي مؤتمر دولي يتكلم إنجليزي، وبعض الناس يمدحونه وما نعرف على إيه يعني عشان سوا كم مشروع خلاص، يرد الثاني صدقت الدنيا حظوظ، وكأن الكفاءة هي أن يتحدث المسؤول الإنجليزية بلبلا أو هدهدا، مع أن الهدهد أشطر، فهو في مدة قصيرة جداً ذهب إلى اليمن وأتى بأخبار بلقيس، وما قال له أحد من الحضور صح جناحك، لقد قام الهدهد بواجبه، ولم ريشه ولم ينفشه وانسحب بكل أدب وتواضع، هدهد عاقل ما يعرف الهياط، وهو لا يعرف إلا لغة الهداهيد، لا إنجليزي ولا فرنسي، مع أن لو أي أنسي أو حتي جني من جن هذه الأيام المايعين قام بعمل مماثل كان أزعجنا بطلاته، مرة صور مع المعجبين الذين بعضهم إعجاب غصب، وبعضهم إعجاب تودد ونفاق.


وإذا غرد في التواصل يشتغل اللوبي خاصته حتى تصير ترندا، فتنتفخ أوداجه وكأنه أتى بما لم تأت به الأوائل.. وأما الطائر البسيط الهدهد فقد عمل المستحيل بقدرة الله وتوارى من المشهد وسكتم بكتم، صحيح أحيانا الطيور لا تقع على أشكالها.

والبعض يقول هذا المدير اللهم لا حسد مثقف، ما تسأله عن عاصمة بلد إلا ويعرفها، ولا مساحة وطن إلا أخبرك عنها، حتى بالسنتي متر، ولد داهية جني ما شاء الله، إنسان متعلم، لغات وثقافة ما تمت لأحد كدا الرؤساء ولا بلاش، طيب خلاص يا ناس، يعني تبغونه كمان يهتم بشغله أنتم عالم ما عندكم نظر، ليه هو ماكينة ولا ربوت، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، أحكام مجتمعية ما أنزل الله بها من سلطان.

ما هي المشكلة إذن أخطأ وزير صحة أو زراعة مثلاً في بلد ما ونصب المرفوع أو رفع المنصوب، طبعاً يا ويله لازم يعفى فقد فعل فعلة نكراء، يا ناس ما هو العالم في كل مكان بينصب على بعض، وما في أحد يتكلم، وبعدين النصب أصبح عملة متداولة ينافس العملة المشفرة البيتكوين وغيرها، بل يتفوق عليها في كثير من الأحيان، فبعملية نصب واحدة قد تدر على النصاب الملايين دون ما يخسر إلا ماء وجهه وشرفه، وأحيانا نادرة حريته.

وأذكر أن رجل أعمال نصب عليه سويحر مسكين وضعيف وعلى باب الشيطان، وكاد يلهف منه 150 مليون ريال، وكان رجل الأعمال المسكين الذي ضخ في نصبة واحدة هذا المبلغ يبغي يصير في عملٍ ذي جاه وسلطان.. ما كفاه المال والبنون ففقد القلب السليم.

طيب خلينا نفترض لو كان ممكناً أن يحدث، وعرض هذا الغني على أي شخص يحمل صفة أو رتبة وقال له أعطيك عشرين مليوناً «ووفر هو الـ130مليون ريال»، وتعطيني البشت ومفتاح مكتبك، لقال له صاحب الجاه (welcome)، ويرجوه أن يكسر وراؤه كم شربة، لأن شربة واحدة قد تخيب وتروح عليه الفلوس ويرجع للكرسي اللي ما يأكل عيش، وتكون يافرحة ما تمت، «كسر الشربة في ثقافة شعبية تعني مع السلامة ولا عاد نشوف وجهك».

هنا أكتب عمن يريدون من المسؤول أن يفهم كل شيء، لغة مع شوية شعر ونحو وفتاوى والذي منه.. يا جماعة المسؤول أهم عناصره هي الروح القيادية واتخاذ القرار والحيدة، والعمل للوطن وفعل ما يحتاج المجتمع من عمله لتقديم خدمة مميزة، لا برستيجات ودربكة وهمبكة واستعراض وأربع يمدحون وأربع يبخرون وأربع يقولون ياباشا تمش، ويزيدون «لو في زي حضرتكم عشرة بس كان شفنا كيف يكون الإنجاز، طبعا» وهم يتغامزون ويخرجون لسانهم على جنب، يعني مشيت عليه وأكلها بالهنا، وعندما يلتف لهم ينبري أحدهم سريعاً تعرف طال عمرك أغنية عبد الحليم، «كامل الأوصاف فتني، فيرد أيوه، إيش بها.. يردون ما بها شي، ويعيد المدير وإيش بها، يردون ما بهاشي، وينتبه أنه كان يتباسط معهم فيقطب جبينه، ويسأل بلهجة فيها حدة وكبرياء إيش فيها يا ولد هذي الأغنية».

فيقولون طال عمرك نعتقد إن المؤلف فلان كتبها فيك، سبحان الله لولا كلمة فتني هذه اللي جات بالغلط، فيرد شكرا.. أيوه كلمني المنتج قبل ما تتلحن وقال لي إنها فيني، قلت له من المؤلف قال هي باسم زيد بس الحقيقة هي لعبيد بس اشتراها زيد وحطها باسمه، فشكرته وقلت بالطقاق عليهم ما يعنيني، أصل الهياط في كل مكان،

المهم خلي الواد الملحن اللي بالي بالك يشوف لها لحن من هنا أو من هناك ويا ليت لو رتمها هندي، بس المهم

لحن يكسر الدنيا، وسألته ايش يقصد بفتني هذه، رد علي قال المؤلف الذي أشتري الكلمات يقصدكم بها الله يحفظكم، فمخك والكاريزما حقتكم هي مو بس تفتن والله تجنن يا باشا، سمعتوا يا شباب إيش قال، فيردون صادق طال عمرك، والله كريزمتكم ما في زيها يسيل لها اللعاب.

التطبيل هو الآفة التي تجعل المسؤول غير الواعي تغم عليه الأمور ويتيه كبراً، وحينئذٍ قل على مصلحة العمل السلام.

يقول المتنبي:

ملأى السنابل تنحني بتواضعٍ *** والفارغات رؤوسهن شوامخ

مشكلة البعض هي التطبيل لمن هو في المنصب على علاته، أو يريدونه كامل الأوصاف وهات يا نقد، وإذا كانوا من بطانته وحضرته لا يعرف الألف من كوز الذرة، يعطوه شهادة الإبداع والإتقان مع مرتبة «القرف».