حياتنا الأدبية فيما يظهر من أمرها راكدة خامدة ما في ذلك شك.kفقد أصبحت الكتب القيمة نادرة، يمر العام دون أن يظهر منها كتاب واحد، فضلا عن كتابين أو ثلاثة، والصحف اليومية والأسبوعية لا تكاد تحفل بالأدب.
وقد تمر الأسابيع، وقد تمر الشهور، دون أن نقرأ في صحيفة يومية أو أسبوعية، فصلا أدبيا ذا بال. والمجلات الشهرية تعنى بلون من الأدب يسير، لا يكلف كاتبه عناء طويلا، ولا يكلف قارئه جهدا ثقيلا. ويستحب فيما تنشر المجلات الشهرية من فصول هذا الأدب أن تكون هذه الفصول قصارا، وأن تكون لغتها يسيرة سهلة، وأن تكون موضوعاتها أيسر وأسهل من لغتها.
فنحن قوم مترفون، لا نريد أن نشق على أنفسنا حين نكتب، ولا نريد أن نشق على أنفسنا حين نقرأ، وأحب شيء إلينا أن نقرأ المقال ثم ننساه.
والموضوع الذي يحتاج كاتبه إلى أن يدرس فيطيل الدرس، ويبحث فينعم البحث، عسير على الكاتب والقارئ جميعا.
وتخير الألفاظ والتأنق فيها يكلف الكاتب والقارئ ما لا يحبان أن يتكلفا.
فقد دخل علينا السأم، وأصبحنا نؤثر أن نمر بالأشياء مرا سريعا.
وكثيرا ما نقرأ لنقطع الوقت، لا لنغذي العقل والذوق والقلب. وكثيرا ما نقرأ لندعو النوم، لا لنذوده عن أنفسنا.
ورحم الله أياما كنا نرى الوقت فيها قصيرا، سريع الحركة، وكنا نتمنى لو زيد في ساعات الليل والنهار نصفها أو مثلها، لنقرأ فنطيل القراءة، ولندرس فنحسن الدرس. ورحم الله أياما كانت الصحف اليومية والأسبوعية فيها، تتنافس أيها يكون أشد عناية بالأدب وأكثر تتبعا للموضوعات، التي يفرغ لها القراء في آخر النهار وأول الليل، فيخلون إليها ويستمتعون بها، وينكرون منها ويعرفون، ويكتبون إلى الصحف بما ينكرون ويعرفون.
ورحم الله أياما كنا نشغل فيها بهذه الكتب الكثيرة، التي تعرض للأدب والنقد ولفنون الحياة على اختلافها، فيشغل بها الكتاب ناقدين ومقرظين.
ويشتد الخلاف بينهم حول هذا الرأي أو ذاك فتشترك صحف كثيرة في درس موضوع واحد، أثاره كاتب من الكتاب، فأنكر عليه كاتب آخر، بعض ما قال أو كل ما قال، وأسرع إلى هذا الكاتب وذاك أنصارهما، فاختصموا وأطالوا الاختصام، وانتفع القراء والكتاب جميعا بهذه الخصومات.
هذا الكلام ليس لي، ولكنه لطه حسين. وليست هذه هي القضية، وإنما القضية أن طه حسين استهل بهذا الكلام مقالا بعنوان «محنة الأدب»، نشر في 31 مايو 1952 بصحيفة «الأهرام»، وكأنه يتخيل حال الأدب هذه الأيام.
فمع أنه مضى أكثر من 39 سنة على نشره، فلا يزال فيه قدر كبير من الصحة، وانطباق أعراض المحنة - التي تصورها - على أدبنا الحاضر، لا في مصر وحدها، وإنما في العالم العربي في مجموعه أيضا.
ومع أن سكان العالم العربي تضاعفوا في تلك السنوات التسع والثلاثين، مثلما تضاعف عدد صحفهم وكتبهم، فلم يتوازن الكيف مع الكم، ولا امتنعت الشكوى من ضعف دولة الأدب. ومن الممكن أن نضيف الكثير إلى أعراض محنة الأدب المستجدة بعد طه حسين.
فالصحف اليومية التي كانت تنشر قصائد الشعر في جيله على صدر صفحاتها الأولى، لم تعد مولعة بالشعر، ومنها ما هو معمر وباق حتى اليوم مثل صحيفة «الأهرام».
ومرافعات المحامين التي كانت قطعا من الأدب الرفيع أحيانا اختفت، ولم يعد كثير من المحامين أنفسهم يجيدون اللغة التي يترافعون بها، بل صارت معظم المرافعات مذكرات مكتوبة تقدم للقضاة كي يقرأوها على مهل.
وفن كتابة السير والتراجم الذي ازدهر في جيل طه حسين، لم يعد باقيا منه سوى اسمه.
وأدب الرحلات الذي برع فيه أجدادنا، يوم كان السفر قطعة من العذاب صار اليوم مثل الديناصور المنقرض في عصر السفر بالطائرات الأسرع من الصوت.
وعادة القراءة التي كانت قد أوشكت على الاستقرار في مجتمعاتنا، وفي نظم التربية بمدارسنا، دهمها التليفزيون، وزعزع استقرارها، مثلما خنق فن المسرح. هذه وغيرها أعراض نلمسها بدرجات متفاوتة في حياتنا الأدبية اليوم، لا فرق فيها بين مشرق ومغرب، فكلنا في الهم شرق، إذا صحت الاستعارة من الشاعر أحمد شوقي.
وهذه الأعراض التي أورد طه حسين بعضها، وأضفنا إليها البعض الآخر، قابلة للعجز والزيادة بلغة المحاسبين والمحاسبات، ولكنها مهما نقصت أو زادت فمعناها واحد، هو أن أدبنا المعاصر يعاني محنة. قبل الجواب عن هذا السؤال لا بد من الإشارة - في الأقل - إلى بعض مظاهر الصحة والعافية التي بانت على وجه هذا الأدب، وهي مظاهر بدأت في أواخر حياة طه حسين نفسه - وإن كان لم يلتفت إليها كثيرا - ثم ترعرعت بعد وفاته.
ولعل أهم هذه المظاهر هو ذلك النضج الكيفي والكمي، الذي حققه فن الرواية العربية المعاصرة. وهو نضج كيفي لأنه جعل هذا الفن الصعب المعقد يلين تحت أسنان أقلام كتابنا، وجعل كتابنا الروائيين أنفسهم في مصاف أنضج كتاب الرواية العالمية.
وما علينا لكي نمتحن صحة هذا الفرض، إلا أن نقارن بين ما كتبه طه حسين من روايات وما كتبه أديب من جيل تال مثل نجيب محفوظ، وأن نقارن ما كتبه الاثنان، بما كتبه أديب آخر من جيل أحدث سنا، مثل عبد الرحمن منيف.
وهو نضج كمي أيضا، لأنه أنتج العشرات من الروايات الجيدة، في السنوات الثلاثين الأخيرة، كما أنتج عددا لا بأس به من الروائيين على امتداد الوطن العربي، من أدنى المشرق إلى أقصى المغرب. ولم تعد الروايات الناضجة فنيا تأتينا من قطر واحد، مثل مصر أو لبنان، كما كانت الحال أيام طه حسين. وترتب على هذا كله، أن ترجمة الروايات العربية إلى اللغات الأوربية الأساسية، أصبحت ظاهرة ثقافية ملحوظة في أوروبا وأمريكا، فضلا عن تتويج جهود الروائيين العرب، بحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل. وإذا كان نضج الرواية العربية، أهم إيجابيات هذه المرحلة من مراحل تطور أدبنا الحديث، فلا شك أن الأعراض السابقة لمحنة الأدب أهم سلبيات المرحلة.
ولكن هل ترجح كفة بها إيجابية واحدة على كفة أخرى بها جملة سلبيات؟ هل تغفر حسنة واحدة ذنب كتيبة من السيئات؟ لا نعتقد أن المجال مجال محاسبة على أي حال.
ومع ذلك، نعتقد أن هذه الحسنة الواحدة، كان من الممكن أن تتضاعف لو لم توجد تلك الكثرة من السيئات، وأن وجود السلبيات الكثيرة يعوق ظهور الإيجابيات، أو يؤخره على الأقل.
ولأن أحلامنا، نحن معشر الأدباء، لا حد لها ولا آخر، فلا مفر من أن نسجل بعضها وأجرنا على الله، ولا مفر أيضا من أن نبحث عن أسباب هذه المحنة كما فعل طه حسين نفسه في مقاله المذكور، وهذا أضعف الإيمان.
لقد فتش طه حسين عن أسباب محنة الأدب، بعد أن أورد أعراضها، وتوقف عند ثلاثة أسباب بعينها.
ثم دعا الكتاب والباحثين في ختام مقاله، إلى تعمق الموضوع وتعرف أسبابه الأخرى.
ولكن الوقت الذي ظهر فيه المقال، لم يكن مواتيا للتعمق والتعرف،فقد كانت مصر التي خصها بحديثه يرين عليها - وقتها- ذلك الهدوء المشهور في الأمثال بأنه يسبق العواصف. وسرعان ما هبت عاصفة بالفعل، بعد أقل من شهرين، وأطلقت على العهد السابق كله اسم «العهد البائد»، ولم يعد أمامها وقت للتعمق في الماضي أو التعرف عليه، لأن الوقت كله انصب على الحاضر.
ومع أن المحنة التي تحدث عنها طه حسين كانت حاضرة، فقد انشغل الناس - ومنهم هو نفسه - بالعاصفة ذاتها، وما شرعته من تغيرات شملت الكثير من وجوه الحياة، بما في ذلك وجه الأدب. ولكن، ما هذه الأسباب الثلاثة، التي تصور طه حسين كمونها وراء محنة الأدب؟.موعدنا الأسبوع المقبل. 1992*
* كاتب وناقد ومترجم مصري «1935 - 1993».