دائما ما يُساورني شعور، يتصف بالإلحاح والإصرار، ويكاد يصل إلى الإكراه والقسر، للسباحة والتأمل في ماهية التغيير الذي يعتور ويصيب النفوس في المجتمعات والأفراد، على حد سواء. ولطالما وجدتُ، من خلال التفكر والتأمل في التاريخ والخبرات المكتسبة، أنه لا يمكن أن يحدث أي تغيير، سواء كان على المستوى المجتمعي أم كان على المستوى الفردي، إلا بأن يحدث تغيير في النفوس والذوات الإنسانية، فهي المحرك الرئيسي لكل تغيير وقع في هذا العالم، علمه من علمه وجهله من جهله، فكل تغيير في الوجود يتعلق بهذا الإنسان لا يمكن أن يحدث إلا بتغيير في الذات والنفس، تغيير يجعل تلك النفس الإنسانية تنقلب رأسا على عقب، فترى الأشياء بعيون صافية، يكاد يُكشف عنها حجاب كل شيء. ففي تغيير المجتمعات، قرأنا في التاريخ، ورأينا في الواقع المصور، والمنقول حيا مباشرا أمامنا، يقينا وقطعا، كيف تغيرت المجتمعات، ففي عصور مضت من أكثر من ألف وأربعمائة عام كانت مجتمعات تعيش في محيطنا متخلفة، ويأكل بعضها بعضا، ثم أصبحت مجتمعات هادئة آمنة مطمئنة، وانتقلت تلك المجتمعات التي تغيرت تغيرا جذريا إلى أنها تُعلم البشرية شتى أنواع المعرفة والأخلاق، وأمدتها بكل أنواع التقدم والتطور، المواكب أزمانهم وأوقاتهم، وكذلك حصل العكس من حيث التغير، فهناك مجتمعات معاصرة، كانت آمنة ومطمئنة، ثم وجدناها تُصبح مجتمعات مخيفة وطاردة لأهلها وأفرادها، بل وقاتلة لكل ما يمت للصلات الإنسانية من مبادئ وأخلاق وقيم، وهذا تجسد واقع في كل الدول التي حدث أن قامت فيها فوضى، تمت تسميتها «ثورات»، فكل تقدم وتطور في هذه الحياة، خصوصا في عصرنا الحاضر، الذي أصبح التقدم والتطور التقني فيه يُشكل النسبة الأكبر التي تستحوذ على عقول وأفئدة البشر، إذا لم يُصاحب ذلك التطور التقني الهائل تغيير حقيقي في النفوس والذوات البشرية، التي تحمل في أعماقها المعاني الحقيقية للوجود، فإن ذلك التطور والتقدم التقني لن يُساعد على تقدم وتطور وتغيير تلك النفوس والذوات الإنسانية، ولن تجد من ذلك التطور التقني إلا انحدارات وانكسارات في كيفية رؤية النفوس للأشياء، وذلك لأن التغيير في النفس للخير والأحسن، والبحث عن المعرفة الحقيقية، ونبذ جذور الجهل والتخلف هو الطريق والمسار الحقيقي كي تتقدم المجتمعات، وهو الطريق المرسوم لذوات الأفراد، كي تكون ذواتا تحمل كل المعاني الخيرة والأخلاق الحميدة والمعاني الفاضلة، وهذا يخلق أفرادا أصحاب كفاءات عالية، فنحن بحاجة إلى كفاءات تنقلنا من حال إلى حال، ولسنا وحدنا في هذا، بل الإنسانية جمعاء بحاجة لهذه الكفاءات العقلية التي تغيرت نفوسها وذواتها، والتي سوف تزيد التقدم تقدما، فـ«إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ». ويتوجب أن نلاحظ وندقق ونضع أكثر من خط تحت عبارة «تغيير النفوس»، فإن النفس البشرية منذ ولادتها، ثم دخولها هذه الحياة، ثم بدئها في الدراسة منذ المرحلة التمهيدية المسماة «الروضة» وحتى المراحل الدراسية، ثم الجامعية، ثم مرحلة الدراسات العليا، وحتى الحصول على الدكتوراه، محركها الأساس للتقدم والتغيير ليست الخطب، ولا العيش في الترف، واللهث وراء الشهرة، وجمع المتابعين أو حتى الموت من أجل الحصول على الثروة، بل إنما الطرائق العلمية المنظمة التي تغير العقل والنفس، وتصنع إنسانا وجيلا جديدا، حتى يُصبح هذا الإنسان الجديد يكره التخلف والجهل، كما يكره أن يُقذف في النار، لأن الله أنزل الكتب وأرسل الرسل، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأظلم الظلمات هو التخلف، لأن التخلف جذر ينبت منه كل أمراض العصر التي نراها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية، والتخلف هو جذر عائلة الرذائل التي أصابت البشرية، ولا يقضي على هذا الجذر (التخلف) إلا البحث عن الكفاءات العلمية والمعرفية، التي لا سبيل لها إلا أن يحدث تغيير في الأنفس والمجتمعات والمستويات للخير والعلم والمعرفة، وصناعة أجيال ترفض أن تتخلف، وتوغل في الجهل المركب والمعقد. فلا شك أن التغيير في النفس الإنسانية هو المسار الحقيقي الذي وضعت العلوم والمعارف قواعدها ومصادرها كي تصبو إلى ذلك المبتغى، وترنو لإحكام سيطرتها عليه، لأنها تتطلع للأحسن والأفضل، وهذا مشاهد ونكاد نقرأه في كل يوم وليلة في قصة «سحرة فرعون»، عندما أيقنوا من المعرفة الحقيقية التي رأتها أعينهم، ووعتها أنفسهم، ولامست ضمائرهم بأن ما يقوم به موسى ليس سحرا بشريا، بل هو نور مقدس، لا تستطيع ولا تقوى عليه النفس البشرية، فأحدثت تلك المعرفة الطاردة جذور التخلف والجهل أن تمكنوا من أن يكونوا أصحاب كفاءات إنسانية حقيقية، يمكن أن يُعول عليها المجتمع، لأنها قوية بعلميتها ومعرفتها، فلا تخشى مسارات التخلف والجهل اللذين يتم تغليفهما بأشكال صورية المعرفة والثقافة، فإذا سكنت الأفكار في النفوس، وتمت سقايتها من عبق الذوات الإنسانية ومن تدبراتها وتأملاتها، فسوف تحمل سمات وصفات سامية، تكون وقودا للتغيير.
والنفس كالطفل إن تُهْمِلْهُ شَبَّ على.. حُبّ الرضـــــاع وإن تَفْـِطْمه يَنْفَطِــمِ
وخالف النفس والشيطان واعصهـــما.. وإن هما مَحَّـــضَاكَ النـــصح فاتـَّـِهــمِ.