ضمن هذا السياق العامّ، صَدَر كتابٌ أخضر، في مداده وفحواه، ينتصر إلى إعادة رد الاعتبار إلى أساليب المداواة الطبيعية، بوصفها الطريقة الأمثل لمعالجة العاهات، لِما تسندها من خبرات تمتد على مئات السنين، فالكتاب، كما هو وَصفٌ للعديد من سُبُل العلاج للمنغَّصات التي تعكر صحة الإنسان بأعشاب ونباتات ومستحضَرات طبيعية، هو أيضا دليل ثريٌّ وزاخر بالعديد من الوصفات، لتحقيق حسن المزاج، والحفاظ على النضارة، وزيادة طول العمر، وفق تقاليد أديرة الرهبان والراهبات. ناهيك عما يتناوله الكتاب من شرح مدقق في إعداد المساحيق والمشروبات الشفائية، وأنواع البلسم ومقادير مكوناتها، وكذلك تقنيات تجميع الأعشاب ومواقيتها ومواسمها، حتى تحافظ على خصائصها.
فن المداواة
توزع الباحثة آنّا ماريا فولي كتابها على قسمين رئيسين: أحدهما يتعلق بتطور «فن المداواة» في الأوساط الدينية إلى حين بلوغه مراتب العلم المعروف بـ«علم الصيدلة»، وآخر يتعلق بالوصفات العلاجية والوقائية، اعتمادا على مرويات أصحابها وممارسيها، فضلا عما تثري به الكتاب من معارف متوارثة على مدى قرون في أوساط النسّاك.
المؤلِّفةَ هي باحثةٌ ورحّالة إيطالية معاصرة، مولعة بتقاليد الحياة الجَبَليّة وعاداتها، تابعت وما زالت حياة الرهبان والراهبات، من حيث تقاليدهم في الغذاء والتداوي. وقد أصدرت في الشأن جملة من الأبحاث القيّمة. كتاب «الصيدلية الإلهية»، الذي نعرضه للقارئ، يضم بين دفتيه خبرات ومعارف متأتية من قرون بعيدة فيما يتعلق بخصائص النباتات والتداوي الطبيعي. كما تم توارثها داخل الأدْيِرة بالخصوص منذ القرون الوسطى، حيث تعرض صاحبته العديد من الخلطات والوصفات والمكونات المتداوَلة على نطاق ضيق، أو غير المعروفة في أوساط العامة، بَيْدَ أنّها بقيت حاضرة في أوساط المتدينين بالخصوص من الرهبان الفرنسيسكان ممن يعيشون بدورهم نوعا من العزلة في مجتمعاتهم الغربية.
تقاليد النسّاك
تستهل الباحثة كتابها بحديثٍ مفصّلٍ عن تقاليد النسّاك في زراعة الأعشاب لغرض المداواة، فعلاوة على ما يميز صوامع الرهبان والنسّاك من عزلة وانزواء، بوصفها أماكن للخلوة والتأمل في العديد من التقاليد الدينية، وليست المسيحية وحدها، أَمْلت الحاجة أن تقوم بداخلها ما يشبه «النقاط الصحية»، للعلاج والمساعدة العاجلة، سواء للمقيمين فيها أو الوافدين عليها من الضيوف والعابرين. وليس من الصدفة أن كلمة «مَشْفى» في اللغات الأوروبية هي مستوحاة من كلمة «hospes» اللاتينية، التي تعني «الضيف»، فكان من الضروري أن يتكفل شخص أو أشخاص داخل الأديرة بتحضير مواد العلاج الطبيعية للوعكات والأسقام بمختلف أصنافها. وبحسب التقليد السائد في أحضان الأدْيِرة، عادة ما يتوارث القائمون على تلك المهمة معرفة متأتية من نسّاك سابقين، والآن يسعى القائمون لتطوير تلك المعارف بالاطلاع على الخبرات السابقة عبر المدونات والنصوص المتوافرة، بالإضافة إلى ما يُعِدّه سكان الدير أنفسهم من ترجمات لما يحتاجونه. ولعل أكثر الأعمال شهرة ضمن هذا التقليد أعمال «أبقراط» و«جالينوس»، فضلا عن مؤلفات ديسقوريدوس فيدانيوس وأودو ماغدينانسيس وهيراقليطس وسيلسوس، إذ يعود استعمال العلاج الطبيعي إلى 1500 سنة قبل الميلاد، حيث ثبت استعمال المصريين القدماء والآشوريين والقرطاجيين الأعشاب الطبية. وفي فترة لاحقة، اهتم الرومان أيضا بزراعة حقول لمختلف أنواع النباتات المخصصة لأغراض طبية.
عوامل ارتباط
في مسعى للإحاطة بعوامل ارتباط علم الصيدلة بتقاليد الرهبنة، تعود الباحثة آنّا ماريا فولي إلى الأصول التي قامت عليها الرهبنة، فمن القواعد التي أرساها مؤسس الرهبنة، القديس بندكت النيرسي، أن يكون في كل دير راهب قائم على التمريض، ينشغل برعاية إخوانه المرضى، فهو من يوزع المشروبات والمنشطات والأدوية، وغيرها من أنواع العلاج المتاحة في ذلك العهد، وهو من يهتم بإيقاد النيران للتدفئة، ويتولى إنارة الدير ليلا، ويسهر على خدمة رفاقه. كما يتكفل «الإنفيرماريوس» بغرس النباتات الطبية في «المنبت الصحي» (hortus sanitatis) المجاور للدير. تذكر «ماريا» أن إحدى البرديات، التي تعود إلى القرون الوسطى، تصف مختلف النباتات التي تعمّر «المنبت الصحي»، ومن بينها نجد الكمون والزنبق والمريمية والإكليل، وهي من العادات التي تحولت إلى قصور الأثرياء والنبلاء لاحقا، إذ تملي قاعدة القديس بندكت أن يحوي كل دير حيزًا أخضر يضم الأشجار المثمرة، ومنبتين أحدهما مخصص للخضراوات مما يتناوله الرهبان، والآخر للنباتات الطبية المخصصة للعلاج. وجراء ما اكتسَبه الرهبان من شهرة في فن الطبابة بالأعشاب الطبيعية، كانوا يخرجون من أديرتهم لمداواة المرضى، غير أن المراسيم البابوية مثل مرسومي 1227 و1268، ومقررات المجامع الكَنَسيّة مثل مجمع رانس (1131)، ألزمت الرهبان بعدم مغادرة الدير.
وفي ظل الحديث عن الصيدلة في أوساط الرهبنة، ينبغي ألا يفوتنا أن القوانين الكنسية تمنع اشتغال الإكليروس بمهنة الطبابة بوجه عام، ولكن السماح بالاشتغال بالصيدلة يأتي للضرورة والحاجة.
ونظرًا للثقة العالية التي حازها الرهبان في الإلمام بخبايا علاج الأمراض وطرق المداواة، أُوكِل إليهم أمر تسيير المشافي الواقعة خارج مقرات المؤسسات الدينية.
ولا ننسى أن اهتمامات الدارسين من رجال الدين بالمصادر التاريخية والتقاليد القديمة في مجال العلاج والطبابة قد قادت إلى إنشاء مدرسة «ساليرنو» الطبية الشهيرة، التي حصلت على دعم سخي من الطبيب والراهب ألفانو مونتيكاسينو (1015/1020-1085).
تطور المفهوم
تطور مفهوم الصيْدَلَة في التقليد المسيحي الغربي، وتحديدا في إيطاليا، داخل حيز الأديرة، حيث تثبت الوثائق، العائدة إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، ترافق هذا التقليد مع نشأة محال لبيع العقاقير والتوابل المشار إليها آنفا. ومع تطور تلك الصناعة، بدأ يُوكل لشخص من خارج الدير شأن إعداد تلك الوصفات التي يحددها طبيب يصحبه كاهن، مع اشتراط أن تُوفَّر تلك الأدوية لقاطِني الدير بالمجان. وبخلاف ما ساد في إيطاليا، كان رجال الدين في فرنسا، إبان القرن السادس عشر الميلادي، واستنادًا إلى قرارٍ تشريعيٍّ، غير مسموح لهم بتعاطي مهنة بيع العقاقير ما لم يكونوا مسجَّلين في هيئة ترعى تلك المهنة. استمر ذلك إلى قبيل تاريخ اندلاع الثورة (1789)، التي وضعت حدا لكل الصيدليات التي تشرف عليها الأديرة، وعرضتها في المزاد العلني للراغبين في امتهان تلك المهنة، فأصيبت تلك المهنة بنكسة. تبرز آنّا ماريا فولي أن العديد من المنابت الموجَّه إنتاجها إلى أغراض طبية وعلاجية قد بقيت تابعة للأديرة الدينية منذ تأسيسها في القرن السادس عشر وإلى 1956، مثل المنبت التابع للرهبان الكابوتشيين في مدينة البندقية، الذي أنشئ خلال 1576م.
فقد شاعت تلك العادات المتعلقة بالمنابت الصحية ومحال الأعشاب التابعة للأديرة في مختلف أماكن انتشار التنظيمات الدينية التابعة لكنيسة روما في أوروبا وخارجها، فداخل أسوار مدينة «دوبروفنيك» العتيقة في كرواتيا يمكن زيارة الصيدلية القديمة التابعة لدير الفرنسيسكان، التي يعود تاريخ تأسيسها إلى 1317م، وهي صيدلية خاصة في البداية بالرهبان، ثم غدت مفتوحة لعامة الناس. وقد كانت تضم مجموعة مهمة من المؤلفات في عِلميْ الطبابة والصيدلة، إلى جانب سجلّات بها آلاف الوصفات، ومجموعة كبيرة من الأدوات التي تعود إلى القرن الخامس عشر، وما زالت هذه الصيدلية نشطة، وتوفر مستخلَصات وفق الوصفات التقليدية القديمة.
من جانب آخر، رافقت جماعات الرهبان الوافدين مع جحافل الحملات الصليبية نحو الأراضي المقدسة في المشرق وبلاد الشام انشغالات بعلوم الصيدلة، إذ نجد العديد من رجالات «الرهبنة المسلحة»، ممن استقرّوا بفلسطين إبان الحروب الصليبية، يتقنون فن تحضير النباتات والأعشاب المستعملة لغرض المداواة. ومن بين الأديرة التي عُرِفت بالاشتغال بالصيدلة حينها صيدلية دير القديس سالفاتور بالقدس بفضل ما كانت تجده من دعم من ممالك الفرنجة المساندة للحملات الصليبية، بوصف تلك القلاع نقاطا متقدمة لاختراق صفوف «المحمّديّين» في المشرق. وقد كانت صيدلية دير القديس سالفاتور بمدينة القدس من أفضل الصيدليات بالمنطقة، نظرا للدعم الفائق من جمهورية البندقية وجمهورية جنوة ودوقية ساباودو في ذلك العهد، لما تقدمه من خدمة للحجيج المسيحيين القادمين من أوروبا.
تقليد مستخلصات
تَواصَل تقليد إعداد المستخلصات في دير القديس سالفاتور في القدس إلى حدود العشرينيات من القرن الفائت، حيث استمر مد «السبيسيريةِ» (Spezieria) - المفردة تعني محلا لبيع التوابل والعقاقير - رهبان الدير، فضلا عن المياتم والمدارس التابعة، بما يلزم من أدوية. وقد بلغت شهرة العاملين في صيدلية الدير أن استعان بهم أعيان العرب والباشوات الأتراك إبان فترات الأوبئة التي أصابت الشام في القرون الأخيرة. وقد كان الصيدلاني الراهب أنطونيو منزاني أحد مشاهير تلك الصيدلية بفعل تصنيعه المرهم المعروف بـ«بلسم القدس»، وهو مضاد للتقرحات والنزيف الخارجي والحروق، خضع استعماله لمقادير مضبوطة وأيام معدودة. وقد جرى تطوير ذلك البلسم إلى سائل، وبات يُستَعمل في القروح التي تصيب المعدة وتقليص آلام الأسنان والسعال. وبفعل الشهرة التي أحاطت بـ«بلسم القدس»، غدا مطلوبا في المدن المسيحية الأوروبية.
وتُعتَبر «سبيسيرية» سانتا ماريا نوفيللا في مدينة «فلورانسا» الصيدلية الأقدم في كل أرجاء أوروبا، فخلال 1381م كان الرهبان الدومينيكان يبيعون «ماء الزهر» كدواء مطهّر مضاد للأوبئة بما يماثل الكحول اليوم، وكانوا يتولون بأنفسهم زراعة النباتات الطبية في المنبت المجاور للدير، ثم يستخرجون مستخلصات الأعشاب والأزهار، ويُعدّون منها العقاقير والمراهم والدهون وأنواع البلسم، ويمونون بها الصيدلية القريبة، ومن تلك المصنوعات الطبيعية ما يُصدَّر إلى أسواق بعيدة نحو الصين والهند. هذا وقد توسع تقليد الصيدلة مع إنشاء أول صيدلية تابعة للرهبان الكابوتشيين على أطراف كنيسة القديس أنطونيو، بـ«كالياري» في سردينيا خلال 1705م. ولم تكن «السبيسيرية» حكرًا على أديرة الذكور، بل أَنشَأت الراهبات أيضا داخل مقراتهن الخاصة كمحال مخصصة للعناية الطبية والعلاج الطبيعي، ففي «بادوفا»، على سبيل المثال، وخلال 1769، كانت المدينة تضم 20 ديرًا للراهبات، ضمت في جنباتها محالًا لصنع مستخلصات العلاج، وكانت بعض الراهبات على دراية جيدة بطرق التحضير وأنواع النباتات والأعشاب، وهو ما يدعمه ثراء الأديرة بالمؤلفات والمخطوطات المتعلقة بموضوعات الأمراض والمستحضرات والأدوية. وقد سجل التاريخ العديد من أنواع المراهم والمستخلصات والمساحيق المستعملة في علاج العاهات من ابتكار الراهبات.
وتطورت الأمور إلى تقديم دروس في علم الصيدلة داخل الأديرة، حيث كانت مجموعة من الرهبان الدومينيكان، تقارب الستين في «مونبلييه»، تلقي دروسًا في التداوي بالأعشاب لرهبان آخرين يفدون من أديرة أخرى. وفي «فلامبروزا»، إلى جانب «السبيسيرية» المعروفة التي يعود تاريخها إلى 1689م، أنشئت مدرسة نباتية ارتادها مشاهير مولعون بالحفاظ على الطبيعة، من بينهم الراهب فرجيليو فالوجي (1626-1707)، مؤلف كتاب «علم النبات» ذائع الصيت.
ما تخلص إليه آنّا ماريا فولي عبر طوافها بألوف التجارب، والتدقيق في مئات الوصفات، أنه لا يمكن بلوغ الصحة، وفق المنظور النباتي، مرة وإلى الأبد، بل من اللازم الترقي لذلك المقام كل يوم عبر ممارسات متتابعة تتضافر فيها الوحدة والانسجام بين العقل والجسد والروح، إذ يتسنى بلوغ الهناء من خلال مراعاة قواعد بسيطة تتمثل في الغذاء السليم، والعيش المنضبط (المواعيد المتناسقة للنوم واليقظة)، والتناسق الأخلاقي، والالتجاء إلى القدرات الرعائية الكامنة في الطبيعة، بمعنى استعمال الأعشاب الطبية. وإلى جانب ما تورده من توصيفات لآثار النباتات الطبية وخواصها عند الاستعمال، تبيّن الباحثة اختلاف تأثيرها بين المرأة والرجل، وبحسب الحالات والأوضاع الملمة بالفرد من صحة ومرض، مبرزة أن كل ما يعكر الروح أو الجسد يمكن تخطيه بنوع معين من الأعشاب، يكون فعله مؤثرا بفضل العناية واللطف الإلهيَيْن.
الكتاب:
الصيدلية الإلهية
تأليف:
آنّا ماريا فولي
الناشر:
تيرا سانتا (ميلانو-إيطاليا) «باللغة الإيطالية»
سنة النشر:
2021
عدد الصفحات:
263 ص