وزادني كلفًا بالحب أن منعت *** وحب شيء إلى الإنسان ما منعا
وهذا التوقُ والتطلعُ والرغبةُ والإصرارُ، لما هو ضار وممنوع ومحظور، هو مشاهد ومتصور في الواقع المعاصر في كل سكنات وزوايا الذات الإنسانية، التي تتنفس في كل مجتمعات العالم، بل قد كان هذا المسار عبر التاريخ مجرباً ومسرودة قصصه ووقائعه، في كتب التاريخ والسير منذ أن خُلق أبونا آدم وأُمنا حواء عليهما السلام، فقد تاقت نفساهما إلى تلك الشجرة التي جاء التحذير منها مباشرة من خالق ومبدع ومصور ذاتيهما «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»، إلا أن الحقيقة المتكونة في تلك الذات الإنسانية الأولى، أبت إلا أن تُثبت بشريتها وأنها مهما بلغت من العلم والمعرفة، ومن القرب من مبدع الكون الإلهي المقدس، تظل قاصرة حتى عن معرفة الكمائن المخبئة في ذاتها وروحها، وأنها لا تستطيع ولا تقوى على الولوج في مسارات معقدة، وفيها كثير من الإشكاليات دون أن يأتيها علم ووحي وضوء من السماء، من خلال مبدعها ومصورها.
وقد تم تدارك ذلك الولوج في المحظور، بعفو إلهي لا يزال يُتلى، حتى تموت وتنقرض البشرية وهذا العالم أجمع، ثم يبعث الله الأرض ومن عليها، بيد أن ذلك العفو لم يُزِل عن تلك الذات الإنسانية بشريتها، وما فيها من كوامن تتوق وترغب في الولوج في المحظور والممنوع، بل إن تلك الحادثة أكدت على أن النفس البشرية، تواقةٌ لما هو ممنوع عنها وأن البحث عن مكامن الطرق لكيفية التخفيف على تلك النفس البشرية، توقها ورغبتها في الوقوع في المحظور، أصبح من أكثر الأمور الملحة في كل المجتمعات الإنسانية، حتى تبقى تلك المجتمعات محتفظة بتوازناتها وكيفياتها للبقاء والاستمرار.
وازدادت هذه الظاهرة مع ازدياد هذا الانفجار الرقمي، في صناعات الأجهزة والتطبيقات المعاصرة التي قد غزت كل أحد، سواءً كان مجتمعاً تقدمياً، أم كان متأخرا ومتخلفاً علمياً ومعرفياً واقتصاديا، بل إن ذلك الانفجار المعلوماتي، لم يذر شاردةً ولا ورادة من حيوات الأفراد في عالمنا المعاصر، إلا ولغ فيها وغاص وحفر في أعماقنا وأسرارنا، حتى لا يكاد يبقى منها أي شيء مستورا أو مخفيا، وهذا مما تميز به هذا العالم الذي وجدنا فيه نحن، سواءً الكاتب أم القارئ، ولا أدري أهو من حسن قدرنا وطالعنا أن وجدنا في هذا الزمان أم أنه من نقمة الأقدار، ومن سوء حظنا أن وجدنا في هذا الزمان، الذي أصبح زماناً ضبابياً وغير معلومة معالمه ومساراته، خصوصاً مع تواطؤ شيء في تلك الذات الإنسانية، ولا تقدر النفوس على معرفة كنهه أو تمييزه، إلا أنها تُدركه وتحسه إحساساً يقينياً ولعله النفس الأمارة بالسوء أو جزء من الضمير يمثل الشر في تلك الذات الإنسانية، ويظل ذلك الشيء يهجم على روح هذا الإنسان المسكين، الذي أمضى عقوداً من هذا الزمان المجهولة أقداره ومساراته.
ويظل ذلك الشيء غير المعلوم يُعيد ويُبدي ويُجسد أحداثاً، ووقائع وتصرفات كان قد اقتحمها، وهي تُعد من الموبقات والمحظورات، ولا شك أن كل ذات إنسانية كان لديها هنات وهنات، وبسبب هجوم ذلك الشيء والإصرار على استحضار تلك المحظورات، التي اقتحمتها تلك الذات المسكينة التي قد قطعت أشواطاً كبيرة في حياتها، سوف يُظهر في حياتها نتوءات وعوائق لا تمكنها من نعمة النسيان والانطلاق من جديد، كي تجد تلك الروح الإنسانية هدوءا وأمنا واستقرارا، وستظل تلك الذكريات المملوءة بالمحظورات المرتكبة، متصورة وماثلة أمام تلك الروح فتقع في إشكالية عدم المضي في حياتها، لأنها ذات لوامة وتُحاسب روحها بكل صرامة، فعند هذه المرحلة تتبين النفس والذات الإنسانية القوية، وصاحبة الوعي ومن لديها اتزان وتوافق مع الماضي والحاضر، وتلك الذات القلقة والمتصفة باليأس والقنوط، فأما الذات الإنسانية الواعية فتتعامل مع كل المحظورات التي ارتكبتها، على أنها ماض قد ذهب ولن يعود ولا رجعة فيه، وليس لها إلا أن تعترف في كوامن دواخلها الذاتية، أنها قد اقتحمت محظوراتٍ كان يتوجب عليها ألاَّ ترتكبها ولا تقتحم حتى الحمى الذي يُحيط بها، وتلجأ إلى حمى البارئ المكون لتلك النفوس والدواخل الإنسانية، وتطلب العفو ولا تطيل البقاء في تلك الأحداث والوقائع الماضية، لأن تلك الإطالة ستجعل الذات الإنسانية، خصوصاً التي تُريد أن تعترف بأخطائها، لا تخرج من دوامة اليأس والقنوط، والقلق المصاحب لها في كل سكناتها وحركتها.
وسوف تنقلب حياة تلك الذات الإنسانية، المتصفة باليأس والقنوط، إلى جحيم لا يُطاق ولن تستطيع أن تعمل في أي مجال، وكلما ابتدأت في حياتها وانطلقت ما تفتأ إلا وتعود من حيث أتت، لأن هناك صوراً وأحداثاً لا تزال حاضرة، تُراودها وتُحاورها عن تلك الوقائع التي وقعت فيها، لعلها تقف حائرة وتُغير مسارها إلى الولوغ في المحظورات، والإيغال في طرقها ومساراتها، حتى تُسيطر على تلك الروح المحظورات، وتصبح ذاتاً إنسانية مهملةً وغير فاعلة، ومن ثَم يترتب عليها كل الأضرار المرتبطة بتلك الذات القانطة والمصابة بالقلق، من تفكك أسري وتهتك مجتمعي، عندما تكثر تلك الذوات والأرواح الإنسانية، التي لمَّا تنفك من سيطرة ذلك الماضي المليء بارتكابها المحظورات، ولكي تتخلص تلك الذات الإنسانية القلقة من محظورات الماضي، لابد أن تعلم أنه «موجود في طبائع الناس الولوع بكلّ ممنوع» وأن «النفس طيّارة متقلّبة، تعشق الإباحة وتغرم بالإطلاق»، وأن الشرع قد أتى بأن الإنسان يُحب الشيء الذي يُنهى عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لو نهيتهم عن الحجون - موضع بمكة - لأوشك بعضهم يأتيه وليست له»، لذا فإن الذات الإنسانية المطمئنة يمضى بها الفكر في الماضي، لكنها تُربطه بما تحمله من فهوم ومشاعر وعواطف، ومعارف اكتسبتها في حاضرها، فلا تجعل محظورات الماضي تُقيدها وتجعلها سجينة للماضى، بل تُكمل مسيرتها كذات إنسانية، لا تحمل في روحها إلا معاني الأمن والاطمئنان، والاستقرار والأمل فيتحطم أمامها كل قلق، فتصبح نفساً وذاتاً زكية، تكاد تُلامس بروحها المقدس الأعلى.