من المؤكد أن أحد أشكال صور الندرة وضوحًا في الثورات الصناعية السابقة يتمثل في نقص الموارد الطبيعية سواءً كانت مياهًا جوفيه، أو غابات كثيفة، أو محاصيل زراعية أو نفطًا أو معادن نفيسة أو ثروة حيوانية وسمكية، أو عجزًا في الآلات والمولدات والمكائن وسلاسل الإنتاج والإمداد..إلخ.

وأصبحت الأسباب وجيهة بأنه عندما تكون هذه الموارد شحيحة، فإن ندرتها تجعل أصولها ذات قيمة ثمينة إلى أن تنضب وتفنى، فأصبح البشر يصارعون استسلام عقليتهم ذات الطبيعة الجامدة التي تكافح لمحاربة الطبيعة ومحاربة الآخرين بهدف السيطرة على مقومات الموارد وانتزاعها بالقوة.

ولكن ما يشهده العالم المعاصر اليوم في ظل الثورة الصناعية الرابعة وما تكتنزه من تقنيات تقدم تكنولوجي وتطور رقمي هائل أدى إلى منح البشر ميزة امتلاك قدرة توليدية هائلة لإنتاج المعرفة وتوليد الأفكار الخلَّاقة الإبداعية والابتكارية واستثمارها، فأصبح التنافس محتدمًا في ضرورة تأهيل وامتلاك رأس المال البشري والفكري القادر على مواكبة ثورة الاقتصاد المعرفي المتجدد.


ولعل مناهج التعليم تُعدُ من أهم المُمَكِنات التي تسعى كثير من الدول إلى تطويرها وتعديل برامجها، بهدف تعزيز قدرة الفئات المستهدفة على استخدام عميق للعقل والمنطق وسعة الإدراك والخيال للفهم والتفسير والتحليل والتقييم والشرح والاستدلال والمقارنة والاستجواب ووضع الفرضيات والتقييم والاختبار والتعميم وتوضيح المفاهيم والبحث عن الاحتمالات والنظر في البدائل وحل المشكلات واتخاذ القرارات في بيئة التعلم وخارجها.

وقد حرصت منظومة وزارة التعليم بمراحلها المختلفة في وطننا الغالي وكاستجابة سريعة لتحديات القرن الحادي والعشرين -بضغوطه البيئية والاجتماعية والتكنولوجية والاقتصادية المعقدة- على استحداث مقررات تكاملية تساهم في خلق مهارات التفكير الناقد والإبداعي، ومهارات التعلم الذاتي ومهارات التعلم الرقمي في خطوة طموحة للتوجه نحو صناعة عقول الوفرة القادرة على الإبداع والابتكار.

هذه الخطوات دون أدنى شك ستعمل على صناعة سلوك تفكير وفرة Abundance Thinking يَتَقِدُ حماسًا لمتابعة كل ما هو جديد في المجالات العلمية المختلفة، ويُسهِمُ في توليد الأفكار المعرفية ومشاركتها بأسلوب أكثر مرونةً وإبداعًا. وهنا أشير إلى أن تطوير عقلية الوفرة والبيئة الحاضنة لها ستساعد على خلق بيئة تعلم إيجابية ونموذجية تؤمن بأهمية تشخيص واكتشاف وإنتاج وتبادل ونقل ومشاركة واكتساب المعرفة ضمن تقنيات نظم ديناميكية وتفاعلية في فرق العمل التعاونية ومجتمعات الممارسة والجماعات المهنية وجلسات العصف الذهني الجماعية، وهذا ما أكده ستيفن كوفي 1989,Stephen Covey في كتابه «العادات السبع للأشخاص الأكثر فعالية» The Seven Habits of Highly Effective people والذي صاغ فيه تعريفًا مبسطًا لمصطلح عقلية الوفرة بأنه «مفهوم يؤمن فيه الشخص بوجود موارد ونجاحات كافية لمشاركتها مع الآخرين» ويقارن ذلك بعقلية الندرة «المنافسة المدمرة وغير الضرورية». منذ ذلك الحين أصبح تعزيز عقلية الوفرة مفهومًا معترفًا به على نطاق واسع باعتباره مسعى مفيدًا في التنمية الفكرية والإبداعية والابتكارية.

وخلاصة القول، لنحرص جميعًا في منظومة التعليم بالمدارس والكليات والجامعات على استثمار تلك المقررات التي تم اضافتها مؤخرًا لتعزيز عقلية الوفرة لدى الأجيال عبر بناء منظومة سلوكيات ومهارات التفكير الناقد الإبداعي والتعلم الرقمي، ومنح الثقة للتركيز على مكامن القوة والفرص المتاحة لتنمية وتطوير الذات. ومن ثم خلق الكفاءة الذاتية عبر تجارب الخبرات والإتقان واستثمار المعرفة العميقة، حتى نصل بإذن الله بوطننا الغالي إلى مصاف الدول المتطورة ذات الاقتصاد المعرفي القائم على الوفرة وليس الندرة.