بالمناسبة هذه الظاهرة، كما قرأت عنها، ليست حديثة عهد بمكان العمل، ولكنها تلقى اهتماما كبيرا من المجتمعات والمختصين في علوم الإدارة، وذلك الاهتمام يبرز ويكثر في المجتمعات المتقدمة. كل ذلك لما لتلك الظاهرة من آثار سلبية وانعكاسات خطيرة على مستقبل العمل من جوانب عدة، منها الاقتصادي والاجتماعي، ولما تسببه من خسائر لا تقدر بثمن، بل وأكثر من ذلك، فإنه على الرغم من شعور القائمين بإدارة المنظمات الإدارية ـ بغض النظر عن نوعها ـ بمحاذير وأخطار استمرار هذه الظاهرة، بل وميلها للتعاظم والتفاقم، فإن الجهود التي تبذل للحد منها أو تحديدها - من وجهة نظري - لا تزال ضحلة ومتواضعة للغاية، إن لم تكن مفقودة على الإطلاق.
بالتأكيد المحاباة في العمل من أسوأ الأمور التي يمكن أن تحدث في أي منظمة عمل، وفي الحقيقة ربما كان الأمر كارثة تنسف منظمة العمل نفسها ما دام وضعنا في الاعتبار أن منظمة العمل ما هي إلا مجموعة من الموظفين الذين يتوجب أن توفر لهم أفضل بيئات العمل، حتى نرى أن العمل يٌنتج بكفاءة وفاعلية. مما لا ريب فيه أن المحاباة والتفضيل بين العاملين لهما أسوأ الأثر في نفوس الموظفين الأكفاء، ويزيدان من معدل الإحباط لديهم، وبالتالي يعودان بالضرر على الإنتاجية في العمل بسبب انخفاض معدل الروح المعنوية للموظفين، التي بدورها تقود إلى سوء الأداء وقلة الإنتاجية، مرورا بكثرة دوران العمل.
الأهم في هذا الموضوع بكامل تفاصيله هو، ببساطة، خلق جو من عدم المساواة والمفاضلة في بيئة العمل. طبعا، فإن البيئة التي تعمل فيها تلك المؤسسة تلعب دورا في ذلك، فأحيانا، وبسبب الوضع الاقتصادي السيئ أو الفساد الإداري قد تكون هكذا محاباة أمرا عاديا في المؤسسات، وبالنسبة للموظفين.
قد يقول أحدنا إن من طباع النفس البشرية التقلب والتغير نتيجة تبدل المواقف والفترات، ومن هنا فقد يحابى المدير أحد الموظفين – أو أكثر من موظف – على حساب زملائهم في العمل، وقد يحابى موظفا أو أكثر على حساب أحد مراجعي المنظومة التي يديرها، وهذا لا شك أنه من أكثر الأمور التي تترك أثرا نفسيا لدى الموظفين أو حتى المراجعين، وهو الأمر الذي تترتب عليه نتائج لا تتسم إجمالا بالإيجابية، لأن الانحياز والمحاباة صفات غير مرغوبة، لذلك يجب تركها، لما يترتب عليها من الآثار والآثام.
إن المدير الناجح، المهتم بإدارته، لا يمكن أن يتصف بذلك، لأن من الواجب أن يتسم بالحكمة والاعتدال، وبالتالي يدرك أبعاد المحاباة وآثارها المدمرة لمنصبه، والمنظومة التي يديرها. ولأنه مدرك لذلك، فهو معتدل في تعامله مع موظفيه، ونتيجة ذلك يستحق أن يوصف بأنه «ميزان» في معاملته لموظفيه، وبالتالي لا يمكن أن يظلم طرفا على حساب طرف، ولا يحفز من لا يستحق التحفيز، ولا يشكر من يتخاذل في عمله، ولا يعاقب من يؤدي عمله على أكمل وجه، ولذلك فمن أهم صفات المدير الناجح أن يكون عادلا في معاملته مع الموظفين، فأنت شخصيا عندما تتعامل مع شخص يحابى المقربين إليه، فإن معنوياتك تنهار. كما أن اهتمامك بالعمل يتلاشى، وكذلك فأنت تغضب وتصاب بالإحباط، ثم لماذا تبذل قصارى جهدك إذا كان إنجازك سينسب في النهاية لمصلحة أحد المقربين من المدير؟ أو قد يكون المدير يحابي من يقف معه حتى لو كان عمله غير كامل أو متقن، ويتسبب في فقدان الهدف من عمل تلك المنظمة، بمعنى «إن لم تكن معي فأنت ضدي». إن من طبيعة البشر التباهي بالمديح والتقدير، فنحن نحب الشعور بالتميز والأهمية، وإذا ما فقدنا هذه الأشياء، فإننا نتردد في إضاعة وقتنا وإهدار طاقاتنا في جهود لا تلقى حمدا ولا شكورا.
الرسالة التي يجب أن تصل لكل من تولى منصبا يقبع تحته موظفون أو تولى مسؤولية منظمة من منظمات العمل، تتمثل في التالي: يجب عليك أيها المدير أن تكون متجردا، لأن قراراتك التي تتخذها عندما تقيم الأداء، أو توزع العمل، أو تصدر الترقيات، أو تعين الموظفين، أو تفصلهم، يكون لها تأثير ينعكس على جميع الموظفين العاملين حولك.
ولا تنس أيها المدير أن للحكمة دورا مهما في مختلف جوانب حياة الفرد، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو إدارية، فالإنسان الذي يتصف بهذه الصفة يعمل على التعامل مع مختلف الجوانب بعقلانية وتروٍ، لأنه يفكر في أبعاد الأمور وتداعياتها وآثارها. لذلك، فإن الشخص الحكيم يزن الأمور بحكمة، ويختار ما يراه مناسبا بعد ذلك، ومن أجل ذلك تعد «الحكمة هي مختبر الحياة». أنا هنا أتساءل كثيرا، ويتساءل غيري كثيرون: أين الجهود لإقامة دورات وندوات وتثقيف المجتمع، خصوصا المديرين، عن ذلك المرض المقيت؟ أين دور الحكومات، خصوصا في مجتمعاتنا العربية، في هذا النوع من التثقيف الذي أعتقد أننا بحاجة إليه أكثر من غيرنا؟.